الأحمدي يكتب عن | الإمامة والتعليم ..الحرب الصامتة

د. ثابت الأحمدي

مدخل

ثمّة دُويبةٌ صغيرةٌ من الحشرات، اسمُها “جُعَل”. لا تعيشُ إلا في الدِّمنِ والأماكنِ المتسخة، فإذا ما تم نقلها إلى مشاتلِ الورود والرياحين تمرض، فتموت. وإليها أشار الشاعرُ بقوله: 

إنَّ الصَّنيعةَ للأنذالِ تفسدُهم كما تضرُّ رياحُ الوردِ بالجُعَلِ

وما أشبه الإمامة في اليمن بهذه الحشرة؛ حيث لا تنتشرُ إلا حيثُ يكونُ الجهل، ولا يكونُ لها وجودٌ إلا بين محدودي التعليم والثقافة، ولهذا فهي ضد النور.. ضد التعليم.. ضد الثقافة.. ضد المعرفة.. ضد التدين الصحيح الخالي من الخرافات والخزعبلات. ومن هنا نعرف سرَّ استهدافهم المتزايد دومًا للتعليم، ودُور العبادة ومراكز الثقافة والتنوير. إنه السّلاح الاستراتيجي الأقوى الذي يخشونه أكثرَ من خشيتهم للبندقية والمدفع. واستهداف الإمامة للتعليم والثقافة ودور العبادة في اليمن قديم، ذلك أنهم يريدون تخليق أتباع لهم كيفما اتفق، لا صناعة أجيال مستنيرة بالعلم؛ لأن سوءاتهم ستنكشف بالعلم، وكلُّ الإمامة سوأة. 

ثأر المساجد

قبل استقراء معالم التدمير المُمنهج لدور العلم والثقافة والمساجد- وهي السّياسَةُ المتبعةُ لدى كرادلة الإمامة قديمًا وحديثًا- تجدرُ الإشارةُ إلى أنّ هذا الكيانَ يرى في نفسه أنه الوحيدُ الذي يحقُّ له دون غيره احتكارَ العلم وتمثيله والتعالي به على الناس؛ كون علمهم- حد اعتقادهم-علمًا لدُنيًّا بالوراثة من جدهم رسول الله..!

 يقول إمامهم عبدالله بن حمزة في رسَالَةٍ وجهها إلى أهل مارب أيام حُكمه: “.. واعلموا أنا أولادُ الرجل الصَّالح، صلى الله عليه، الذي شرع هَذِه الشَّرائع، وسنَّ هَذِه السُّننَ، وأوضحَ رسوم العدل، وطمسَ رسومَ الجور، فنحنُ أعلم النَّاسِ بآثاره وسُننه وطرائقه وعلومه، فلا تهلكوا أنفسَكم بالجهالة، والعملِ على غير بصيرة، واعلموا أنا روينا عن أميرِ المؤمنين أنه قال: أيها الناس، اعلموا أن العلم الذي أنزله الله على الأنبياء في عترة نبيكم، فأين يُتاه بكم عن أمر تُنُوسِخَ من أصْلاب أصْحاب السَّفينة؟ هَؤلاء مثلها فيكم، وهم كالكهفِ لأصْحابِ الكهف، وهم بابُ السِّلم، فادخلوا في السِّلم كافة، وهم بابُ حطة، من دخله غُفر له.. واحْمدوا الله الذي أوصَلكم وقتًا تقتدون في دينِكم بعترة نبيِّكم، تأخذون الحَق من أهْله، وتقتبسون النور من معدنه، وتنتسبون إلى العترةِ الطاهرة التي خُلقت من طينة عليين، ورُبيت في حُجورِ النبيين..” إلخ. انظر: مجموع مكاتبات الإمَام عبدالله بن حمزة، بتحقيق عبدالسلام الوجيه، ص: 18.

لقد أبقى الأئمَّةُ اليَمَنَ معزولًا على نفسِه، ومنغلقًا على ذاتِه، حتى لا يرى الشَّعبُ نورَ العلم، فتنكشفَ حقيقتُهم على الملأ. 

هدّم السّفاح عبدالله بن حمزة مساجدَ المطرفية وأربطتهم العلمية كاملة، وكانت تمثلُ حينها أكاديمياتٍ علمية مبكرة، فانتشر العلم، وبدأت الخرافة تنمحي، متجاوزين كثيرًا من الخُرافات، ومنها ما يسمى بأفضلية آل البيت، فقام ابن حمزة وقتل طلاب العلم وهدم مساجدهم وأربطتهم كاملة في سناع ووقش، وقَدْ قَال بعد أن تمكن من القضاء عليهم: “أريد أن أجْعلها سُنَّة باقيَة يعملُ بها من قَام ودعَا من أهْل البيت فيما بعد”. انظر السيرة الشريفة المنصورية، أبو فراس بن دعثم، 95/3.

وحينَ غزا آلُ شرف الدين الطاهريين إلى رداع قاموا بالسَّيطرة على أضخم مكتبة علمية في اليمن ومصادرتها، وكانت من ضِمن المنهوبات والغنائمِ، فضاعتْ دررٌ ونفائسٌ عظيمةٌ بين هَذِه الحروب التي يكون من ضمنِ أهدافِها إلى جانب القضاء على الخصْم، أيضًا القضاء على ما يحملُ من موروثٍ وثقافةٍ وآثار، مع أنَّ هَذا الموروثَ هو ملكُ بلدٍ وحَضارةٍ وأمَّة، وليس ملكَ أشْخاصٍ بعينهم؛ بل لقد بلغَ الحالُ بالفئاتِ المهزومةِ في كثيرٍ من الصِّراعاتِ التَّارِيْخِيَّةِ أن اضطُرتْ إلى إحراقِ ما بحوزتها من وثائق أو مخطوطاتٍ بنفسها، خشيةَ مداهمة جند وأتباع الإمامة لمنازلهم وبيوتهم، فتكون من القرائنِ التي تدينُهم بأي توجهٍ أو موقف. 

 اسْتولى المطهرُ بن شرف الدين على أوقافِ المدرسَة العَامريَّة برداع وغيرها من المدارس المنصوريَّة والمجاهديَّة وصَادر أملاكها لصالحه الشَّخصي وهِي الموقوفة على المدرسَة من أيام الطاهريين والرسُوليين، الذين أوقفوا الإقطاعيَّات المهولة للصَّالح العَام ولخدمة المرافق التعليميَّة والدينيَّة.

وبهذا التصرف الذي انتهجه هو ومَن قبله أو بعده من الأئمة هو تدمير مقصود للمساجد، مستبطنًا أهدافًا ثلاثة: 

–  باعتبار المساجد دورًا للعبادة 

–  وباعتبارها مدارس ومنارات علم 

–  ومن أجل مصادرة الأوقاف التابعة لها لصالحهم الشخصي.

وذكر المؤرخ محمد علي الأكوع في كتابه: المدارس الإسْلاميَّة في اليمن، أن الإمَام المهدي محمد بن أحمد بن الحسن صَاحِب المواهب، ت: 1130هـ، كان أول من سعى في خراب المدرسة العامرية في رداع، لأنها في اعتقاده من آثار كفار التأويل، وكفارُ التأويل لا حرمة لهم ولا قربى، لولا أن القاضي علي بن أحمد السماوي تصدى له بقوة، محذرًا إياه من مغبة ذلك. فتوقف المهدي، واكتفى بهدم شرفاتها برًا بيمينه؛ لأنه كان قد أقسم على هدمها!

ثأر المدارس

كالمساجد أيضًا المدارس مصدر قلق، وقلق كبير للإمامة عبر التاريخ، باعتبارها نوافذ للنور والمعرفة. ولقد كان أولُ ما عَمله الإمَامُ يحيى عندَ دُخوله صَنعاء- بعد انتصاره على الأتراك العثمانيين وقَدْ رحلوا عن اليَمَنِ- أن هَدمَ دار المعلمين التي بناها الأتراكُ لليمنيين، وقضى على كثيرٍ من المعَالم الحضاريَّةِ التي من شَأنها أن تنيرَ عقولَ الشَّبابِ والنَّاشِئة.

ويذكرُ العلامة محمد المجاهد عن جيوش الإمام يحيى حين دخلتْ تعز “.. أنهم بدؤوا بمهاجمةِ المتبقي من المدارسِ الرسُوليَّةِ والمساجدِ، فكسَّروا الزخارفَ، وقشروا القبابَ، بحثًا عن كنوزٍ وراءها، فكان وهْمًا مُدمرًا، ثم مزقوا مكتبةَ الأشرفيَّة تمزيقًا بغيضًا، وكانتْ عامرةً بروائعِ كتب الحقبِ والمخطوطاتِ النادرة، حتى إنه لم يبق فيها أثر”. مضيفًا: “عندما دخل السيد علي الوزير إلى تعز سنة 1337هـ هاجم عسكره مسجد الأشرفية، وبددوا تلك المكتبة، ومزقوا كتبها شر ممزق، ووصل بهم الأمر أنهم قاموا بكشط الذهب الذي يزخرف القباب من الداخل، كما كسروا النجف المصنوعة من الجص.. وعندما ظلت المدرسة صامدة تبادر إلى ذهن الإمام أحمد حميدالدين سامحه الله أن يقيم في مؤخرتها مدبغة للجلود، وهذه أقرب الطرق المؤدية إلى انهيار المبنى، ونفذ الفكرة بخبث عجيب..”. انظر مدينة تعز غصن نضير في دوحة التاريخ العربي، محمد محمد المجاهد، ط:2، 2007م، ص: 66.

وفي عَهده منع اليَمنيين من شِراء الراديو، وأيضًا منع السَّماح بدخول الصُّحف التي كانت تصدرُ في عدن خلال فترة حُكمه، أو التي تأتي إليها من خارج عدن. ويُسجلُ القاضي عبدالرحمن الإرياني رئيس الجُمْهوريَّة العَربيَّة اليَمَنِيَّة الأسْبق قصتَه مع الراديو وهو في تعز عام 1947م بقوله: “.. تاقتْ نفسي لشِراء جِهاز، ولكن كيف لي بذلك وقَدْ كان شِراءُ الراديو ممنوعًا تحت حُجة أنه يذيع أغاني يحرمُ استماعُها؟! وبعثتُ رسَالَة رجاءٍ إلى الإمَام يحيى أطلبُ فيها السَّماح بشراءِ راديو للاستماعِ إلى الأخْبار وما يُذاع من برامجَ ثقافيةٍ وعلميَّةٍ، وجَاء الجوابُ بقلم الإمَام يحيى نفسِه على ظَاهرِ رسالتي يأذنُ بشراء الراديو، ويقول: “ومثلُكم ممن لا يلهو بسَماعِ الملاهي”، ليؤكدَ بذلك أنَّ منعَ اقتناءِ أجهزة الراديو، ويقول: “ومثلُكم ممن لا يلهو بسَماعِ الملاهي”، ليؤكدَ بذلك أنَّ منعَ اقتناءِ أجهزة الراديو على المواطنين إنما باعثُه خوفُ الفتنةِ عليهم بما يُذاع من الأغاني المحرَّمة، ولما أمِنَ عليَّ الفتنةَ أذنَ بالشِّراء. أسجلُ الحادثةَ لأعطي للمطلعِ صورةً عن العزلةِ التي كانتْ مضروبةً على اليَمَنِ في عهدِ الإمَام يحيى، إلى حد أنَّ المواطنَ يحتاجُ من أجلِ أن يقتنيَ جهاز راديو إلى إذنٍ خاصٍ من الإمَامِ وبقلمِه، وكانت أشْبه ما تكون بدائرةٍ مغلقةٍ لا يزورها أحد، ولا تزور أحدًا. انظر: مذكرات الرئيس القاضي عبدالرحمن بن يحيى الإرياني، ص: 130/1. 

وحين بدأتْ أجهزة الراديو تتسللُ بعد ذلك عن طَريْقِ التجارِ والمغتربين كان النَّاسُ يستمعون للراديو في سِريَّةٍ مُتناهيَة، خشيَة أنْ تطالهم عُيونُ الإمَام، ومن ثم تنزلُ بهم العُقوبة؛ أمَّا حين تم تأسيسُ إذاعةٍ خاصَّةٍ بدولة الإمَامِ فلمْ يكن بثُّها يتجاوزُ غير سَاعتين إلا ربعًا فقط، مقتصرًا على برامجَ تقليديةٍ، وظلَّ نشرُ الأغاني عملًا محرمًا حتى وقتٍ متأخرٍ من عقد الخمسينيَّات. انظر: الثقافة والثورة في اليمن، عبدالله البردوني، ص: 426 فما بعدها.

وحين ولَّى الإمَام يحيى ابنَه إسْماعيل وزارةَ المعارف لم يكن بوسْعه، وهو الوزير أن يُدخل طالبًا في أي مَدرسَةٍ إلا بموافقةِ أبيه، كما لم يكنْ في مقدورِ نجله الآخر وزير الصِّحةِ أن يُدخلَ مريضًا في المستشفى إلا بموافقة أبيْه، ولا في مقدورِ وزيرِ المواصلاتِ أن يوظفَ سَاعيَ بريدٍ إلا بموافقة الإمَامِ نفسِه. الطريق إلى الحرية، مذكرات العزي صالح السنيدار، ط:2، 1998م. 270.

ولنستمع هنا لشهادةٍ تَاريْخيَّةٍ بقدر ما تبعثُ على الأسَى والحزنِ، بقدر ما تثيرُ من السُّخريَّة، رواها الدكتور مصطفى الشكعة، وقَدْ كان قريبًا من الإمَامِ يحيى، خاصَّة خلالَ سنواته الأخيْرة. يقول: “والحكومةُ اليَمَنِيَّةُ لا تؤمنُ بالأطبَّاء، ولا بالعلاج الحديث، وترى أنَّ الأطباءَ يفِدون ومعهم الثورة، كما ترى أنَّ العلاجَ الحديثَ رجسٌ من عملِ الشَّيطان؛ ولذلك فقد شَجَّعت الشَّعبَ على العِلاج بالتمائمِ، وقَدْ شَاهدتُ بنفسي تمائمَ كان يكتبُها الإمَامُ يحيى، ملكُ اليَمَن، لكي تَستشفي بها الرعيَّةُ، وحتى يكونَ العلاجُ ناجحًا، كان يتقاضى عن كل حجابٍ “تميْمة” نصفَ ريال يمني. إنه ثمنٌ رخيصٌ ولا شك، لأنه يشتملُ على الكشْفِ والدواء معا”!! انظر: مغامرات مصري في مجاهل اليمن، د. مصطفى الشكعة، ص: 126.

مضيفًا: “.. وعلى عهدي باليَمَنِ كان في الدَّولَةِ كلها ثلاثةُ أطبَّاء، واحدٌ في الحديدة، واثنان في صَنعاء..”. نفسه 126.

وفي واحدةٍ من الحماقاتِ التاريخيَّة، وسِيَاسَة الهمجيَّةِ والحقد والترهيب التي اتَّبعها هَؤلاء أن عمدَ الإمَامُ يحيى عام 1928م إلى مُصادرة الوقف على أكبر مَدرسَة دينيَّة، عُرفت عند البعض بجامعة الأشاعرة، كانت تُدرِّسُ مختلفَ فنون العلم، في زبيد بتهامة. ولمدينة زبيد شهرتُها العِلمِيَّة التي تجاوزتْ المحليَّة إلى القُطرية، وتوافد عَليْها آلاف المُريدين على ما يزيد عن ثمانمئة عام، وتخرج منها آلاف العُلماء في مختلف المجالات، ولم يبقَ بعد تلك المصادرة، إلا المدارسُ الصغيرةُ، والكتاتيبُ الأولية؛ وتبع ذلك مصادرة العديد من أموال الأوقاف وإغلاق المدارسِ في أكثرِ من مكانٍ على طول اليَمَنِ الأسْفَل. انظر: ثورة 26 سبتمبر في اليمن، إيلينا جولوبوفسكايا، دار ابن خلدون، بيروت، ط:1، 1982م، ص: 154.

ومما يزيد مقولة الإمَام أحمد تأكيدًا، ما ذكره العزي السنيدار في مذكراته عن النقيب حمود شريان، أحد أعيان بكيل، حين خاطبَ أحد الأمراء بلهجته المحلية قائلًا: “أنا مستغربٌ لأعمال الإمام، كأنهم يدرسون دراسة أخرى؛ أما نحن فلا يسمحون لنا بالقراءة إلا إلى سورة الزلزلة، وأنتم تقرؤون مطلع مطلع.. كيفه”؟؟. الطريق إلى الحرية، سابق، ص: 91. 

ويضيف السنيدار عن طبيعة التعليم في عهد الإمام يحيى، في القرن العشرين: “..أمَّا المعلامةُ أو المدرسَة، فكانت عبارة عن مكان مُظلم لا توجد فيه نافذة، وإذا وجدت فواحدة فقط، وليس فيها فراش ولا سُبورة ولا مقاعد؛ بل يقعدون على التراب، والمعلم على دكَّة، بين يديه جملة عصي والسَّوط والفلكة، والأولاد يكتبون دروسَهم على الألواح الخشبيَّة، والمداد عبارة عن حِجارة بيضاء ليِّنة، يبلُّونها في الماء، ويستعملونها كمداد أبيض على اللوح الذي صُبغ بمادة سَوداء.. ولم يتطور التعليمُ إلا بعد دُخول الأتراك، وفتحهم للمدارس، وكانوا يسمونها “المكتب” وهِي تعد بالأصَابع، وقَدْ شُنَّت ضدها الدعاياتُ، ولم يُدخِل أهالي صَنعاء أولادَهم إلى هَذِه المدارس إلا بعدَ حين..”. الطريق إلى الحرية، سابق، 11

يذكر الدكتور الشكعة أنه في نهاية حكم الإمَام يحيى لم يكن يوجد في اليمن كلها حافظٌ واحد للقرآن الكريم، كما لم يكن الطلاب يدرسون اللغة الإنجليزية أبدًا في المدارس الموجودة، وهِي ثلاث مدارس في مستوى الإعدادية تجوُّزًا تُدعى بالثانوية، في كلٍّ من صَنعاء وتعز والحديدة، وثلاث مدارس أخرى في مستوى الابتدائية تجوُّزًا، وتدعى المتوسطة في الثلاث المدن ذاتها، ثم مجموعة من الكتاتيب في المدن الأخرى وبعض القرى، مشيرًا إلى أن عقوبة التلميذ يومها إذا أخطأ أن تُقيَّد قدماه بالحديد كأنه مجرم! مغامرات مصري في مجاهل اليمن، 103. وقد ذكر الشكعة واقعة طريفة آنذاك وهو تصريح سيف الإِسْلام الحسن، نجل الإمام يحيى للصحافة المصرية حين سألوه عن نسبة التعليم في اليمن، فأجاب بكل جرأة، وبغير خجل: أنها مئة في المئة..!

وقَدْ أشار الدكتور عبدالعزيز المقالح إلى أن الوثائق قد أشارت إلى أن عدد الملتحقين بالتعليم في اليمن كله أثناء قيام ثورة 26 سبتمبر 62م ستة آلاف طالب فقط، في الوقت الذي وصل عددهم منتصف الثمانينيات وآخرها إلى ما يقرب من مليون طالب، وهَذا في اليمن الشمالي سابقًا فقط! وللقارئ أن يتخيل الهوة بين العددين!

وذكر العلامة إسماعيل الأكوع في كتابه هِجَر العلم ومعاقله في اليمن نص رسالة لصهر الإمام أحمد، وهو المفتي أحمد بن محمد زبارة الذي وجَّه رسَالَة للشهيد الزبيري، ينصحُه هو ورفاقه بعدم الاهتمامِ بالقبائل وأبنائها، وتركهم على حالهم، قائلًا: “.. وإنَّ من الأوفقِ لهم ألا يسعوا إلى تحسينِ وضع القَبَائلِ وتعليمهم، وإدخال الوسَائلِ الحديثةِ لإسعادِ أهل اليَمن، من بناء مدارسَ ومُستشفياتٍ وطرقاتٍ، وأنَّ عليهم السمعَ والطاعةَ للإمام وإن ضرب ظهرهم.. وأنه لا حاجةَ لهم من التعليم غير معرفة فروضِ العبادة، وأن الأولى والأجدر بالقبيلي أن يبقى فلاحًا، فلا يحتاج إلى نعال، ولا إلى ملابس، ولا إلى علاج؛ بل يجبُ أن يستمرَّ في جهالته وشقائه وبؤسِه ومرضِه، بجوار ثوره ومحراثه وماشيته”. انظر: هجر العلم ومعاقله في اليمن، 604/2.

وخاطب الإمَامُ أحمد الطلابَ أثناء افتتاح مَدرسَة ابتدائية بالعاصمة صَنعاء إبان حكم أبيه قائلًا: “من أرَاد منكم أن يتعلم غير الفاتحةِ وأركان الوضوء وضعتُه في فمِ المدفع”. انظر: اليمن.. الثَّورَة في الجنوب والانتكاسة في الشمال، د. محمد علي الشهاري، دار ابن خلدون، بيروت، 1972م، ص: 13.

ويختزل الشَّاعر الزبيري هَذا المشهد ببيت شعر، قائلًا: 

جهل وأمراض وظلم فادح ومجاعة ومخافة وإمام!

كما اختزله البردوني أيضًا نثرًا بقوله: “لم يكن لليمنِ وجودٌ قبل ثورة سبتمبر. إن عمرَ اليَمَنِ هو عمر الثورة، لم يكن في اليَمَنِ قبل الثَّورَة أي مستوى من التعليم، ولا أي نصيبٍ من الثقافة، ولا أي مقدارٍ من الطب”. الثقافة والثورة في اليمن، سابق، 59.

أما الشَّاعر أحمد عبدالوهاب الوريث، فقد قال:

أفي اليَمَنِ الميْمونِ وهو مُقدَّسٌ نرى الملك مشغولًا بجمع الدراهم

أفي اليَمَنِ الميْمُونِ ننظر أهْلَه يتيهون في ليل من الجَهْل فاحـم

أفيه يسود الظلم والجهل والرُّشا وفيه نرى الدينار أحكم حاكم

ولا يزال الحال من بعضه إلى اليوم، ولو بُعث الزبيري من قبره، من جديد، لردد ما قاله بالأمس: 

جهل وأمراض وظلم فادح ومجاعة ومخافة وإمام!

تأتي هذه الكهانة الإمامية ومحاربة التعليم في القرن العشرين، في الوقت الذي عرفت فيه الدول المجاورة الجامعات والمعاهد والصحف والمجلات والإذاعات والأندية الثقافية والمراكز العلمية، فيما اليمن لا يزال مغلقًا على نفسه، بسبب توجس الإمامة من كل نوافذ المعرفة والثقافة والتعليم. علمًا أن التعليم النظامي قد عرفته حضارةُ اليمن القديم من قبل الإسلام، كما يقول المفكر العربي الدكتور طه حسين: “كان لعرب الجنوب في العهد الجاهلي مدارس ومعاهد للتربية والتعليم. وكانت لهم دُور كتبٍ يختلف إليها الطلابُ ورُوَّادُ العلم. وكان التعليمُ عندهم ينقسم إلى قسمين، ابتدائي وعالي. وهناك من الدلائل ما يدل دلالة قاطعة على أنه كان لكلٍّ من القسمين مدارس ومعاهد خاصَّة به. وكان الأطفالُ في القسم الابتدائي يدرسون الهجَاء والمطالعة والحساب وقواعد اللغة، كما كان الطلاب في القسم العالي يدرسون الهندسة العملية والحساب، وعلم الفلك والطب، وفن العِمَارة والنقش والأدب والتاريخ”. انظر: تاريخ الأدب العربي، العَصر الجاهلي والعصر الإسلامي، طه حسين، دار العلم للملايين، بيروت، ط:4، 1981م، 104/1. والتعبير بلفظ الجاهلية هنا مجازي فقط؛ لأنَّ اليمن لم تكن في جاهلية قبل الإسلام؛ بل كان أهلها أصحابَ حضارةٍ وتمدنٍ ورقي.

الحوثي.. هذي العصا من تلكم العُصيّة

كعادةِ آبائه وأجداده في الهدمِ والتخريب، ها هو الحوثيُّ اليوم يواصلُ مسيرتهم في تفجيرِ المدارسِ والمساجد ودورِ القرآن الكريم، والاعتداء على الجامعات والكليات والمعاهد، وكل ما يمتُّ للتعليم والثقافة بصِلة. 

وقبلَ أن يعمدَ الحوثي إلى تفجيرِ المدارس ودورِ القرآنِ لا ننسى الإشارةَ إلى أنه قد عمل على تجهيلِ المجتمع في المناطقِ التي كان يسيطرُ عليها سَابقًا، أو له تأثيرٌ على سُلطتها المحلية، بأي صُورةٍ من الصُّور، من خلالِ محاربة فتح المدارسِ النظاميّة، أو من خلالِ صرفِ الفتيان والناشئة إلى تعلُّم ملازمهم وكتب الإمامة المتوارثة، الممتلئة بالخُرافة والكهانة، لأبناءِ العامة من الناس، في الوقت الذي كانت كرادلةُ البيوتات الإماميّة ترسلُ أبناءها إلى أرقى الجامعاتِ الأوروبيّة والأمريكية، فيما أبناءُ العامّة والمواطنين في حوزاتِ وأربطة “السيد”..! 

حين وصلَ الحوثي إلى صنعاء في عملية انقلابٍ همجيّة على الدولة، وصلها على أشلاءِ ورُكاماتِ كثيرٍ من المدارسِ والمساجدِ والبيوت التي فجّرها، مستلذًا بذلك التوحشِ الإرهابي الذي مارسَه ضد اليمنيين. مع أنها قد بنيت من عرقِ جبين الشَّعب، ومن قوته الضَّروري. وهي مرافقُ عامة في خدمةِ الشّعب، لا في خدمةِ جماعةٍ أو أفراد من خصومهم السياسيين. وفي الواقع كل الشعب خصومهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى