قصة حقيقية | #شادي_وهنادي

يقصُّها عليكم: #معين_الصيادي

حكى لي ابي عن ابيه، ان رجلا يدعى “شادي”، كان صاحب اراض واسعة اشتهرت بزراعة البن والعنب والقطن والفل، تعرف على بنت جاره الحاج “محمود”، الآنسة “هنادي”، ملكة البنات، كما كان يسميها شباب #القرية لشدة جمالها وصرامتها.

معين الصيادي
معين الصيادي

شادي.. الفلاح الامبراطور، تزوج هنادي بعرس باذخ – حسب الرواية- حد انه وزع لكل منزل من منازل القرى المجاورة صندوق #عنب و”نفر” بن، في حفل زفافهما، وأمَّا المواشي التي نحرها يوم زفافه فقد بلغت مائة رأس من #الماعز والضان، بينما رقص الشبَّان وفاحت رائحة #المباخر حتى وصلت اطراف المدينة التي لم تكن تبعد عن قراهم سوى بضع كيلومترات..

دارت الايام والسنون وخلفوا عبده وعبيد وشهد وزهد، وزاد ضجيج الاولاد في دار شادي وهنادي سعادة، إلا ان نيران الغيرة كانت تصطلي الكثيرين من الحسَّاد، كذلك هو البلاء الذي نزل من السماء على المنطقة، ومرت خمس سنين عجاف، جفت السماء، وأجدبت الارض، وماتت الاشجار واقفة، واعلنت خزانة شادي الافلاس، ليصبح عاملا بالاجر اليومي لدى اهل القرية، ولان الرجل اعتاد عيش الهناء والسعادة والاكل من خيرات ارضه بدون تقتير، اصبح ينفق اغلب ما يجنيه على #السيجار التي كان يشتريها من “عبده الخونج”، وهو لقب اطلقوه على صديقه “عبده” في احدى جلسات القات التي كان يحضرها اسبوعيا اصحاب القرية.

وأمَّا تفاصيل تسمية “عبده” بـ”الخونج عده” فتعود الى تنوع وحصر بضاعته في السيجار والتمباك والشمة والبردقان، وغالبا ما كان يورِّد بعضها من عدن التي اشتهرت بتجارتها عبر ميناء عدن، ودخول السجائر البريطانية وغيرها، واستخدامه لمفردات باللغة الانكليزية والروسية التي التقطها هناك.

هنادي وعصافيرها الاربعة الذين اكبرهم هي شهد بنت العشر سنوات، تليها زهد بفارق عامين، بينما احتل عبده المرتبة الثالثة بفارق سبع سنوات عن شقيقته البكر، فيما”عبيد” كان آخر العنقود، ولم يكمل حينها قذ أكمل عامه الاول، كانت اشبه بالمرشد في حضرة الجماعة، لا تكل عن المواعظ ولكن جميعها لم تثمر، ربما بسبب حِدَّتها في الوعظ، وهو ما ورثته عن ابيها محمود، الذي ورثه عن والده “حسن” واللذان عرفا بتشددهما الديني حتى في اتفه الامور لدرجة ان الجماعة نفرت منهما.

كذلك، هنادي، ورثت من ابيها وجدها الفشل في الوعظ، واخفقت في احتواء الموقف، بعد ان كانت تضغط على شادي كثيرا بان يسافر للغربة ليعود محملا بالهدايا والعطايا، وهو ما اعتبره اهانة له بعد ان كان يبيع سنويا، من القطن فقط قرابة خمسة اطنان، ولو انه لم يسرف بكرمه مع اسرته وقريته وعمَّاله لكان سبق هائل سعيد وشركاه بعدد الشركات.

ويبدوا ان نظرية (كثر الضغط يولد السفر دون عودة)، حقيقية، حيث تفاجأت ذات يوم حين صحت وهي تتحسس شادي بجوارها لتطلب منه ان يقدم لها كوب بن من قهوته الصباحية التي كان يحرص على ان يُعِدُّها بنفسه، ومن بن مزارع حقوله، لم يعد موجودا.

مثل فار، يخرج من جحره، خرجت من تحت بطانيتها، تتفحصه في حوش الدار، وفي مجلسه الخاص الذي كان يعتاد ان يستقبل كل جمعة جميع اهل القرية وتشاطر الحديث مع مضغ اعواد القات وسط غيمة من أدخنة السيجار المداعة، ولكنها لم تجد له أثر، بإستثناء بلاغ شفوي تلقته من الحاجة “قبول” التي شاهدته من نافذة حجرتها التي بجوار اسطبل بقرتها، حين سمعت نباح “هداش” – كلبها- ، فقامت بفتح النافذة خشية من ان لصا حضر ليسرق بقرتها التي لا تملك سواها.

تقول “قبول”، سمعت هداش فانتفضت مذعورة من تحت الفراش خوفا على “خيرية” – تقصد بقرتها- إلا اني تفاجأت بشادي يلف شالا على وجهه ورأسه، فقلت والله ما يملك هذا الا شادي، او ان لصا سرقه من حوشه حين تعلقه هنادي بعد الغسيل، وصرخت “شادي او سارق”؟!، واردفت “وقف والا جمعت عليك القرية يا سارق”؟..

اجابها بصوت يرتجف من شدة البرد، شادي بشحمه وعظمه يا امه “قبول” – وكلمة (امَّه) كانت تطلق على المرأة الطاعنة في السن أيا كانت.

قالت فسألته: الى أين يا ولدي في هذا الوقت؟، من الجهال مريض “تقصد من اولاده، وخروجه ان تصح الطيور لا يجبره الا مرض”، إلا ان الرد كان صادما، حين قال لها، #السعودية، ضاقت الدنيا وزاد الدين والخصوم.

لم يطل بحديثه، واختتم سريعا “قولي لهنادي اولادي بذمتها”، انا أيضا فقدت اي تساؤلات، ودعته بادعيتي، واتجهت الحمام توضأت وعدت لسجادتي اصلي ودعوت له.

هكذا اختتمت سرديتها التي ارفقتها بالبلاغ المقدم لـ”هنادي”، بينما هنادي لم تصمد طويلا في معركة الحياه، وما ان انقضى عامها الخامس من الوحدة الا وتزوجت بـ”سهدود” ابن خالها، بعد ان اقنعتها شقيقته “غندور” بان غربة اكثر من عام او عامين تعني وفاة المغترب ان لم تكن اكلته السباع في احدى الصحارى الحدودية التي كان يقطعها معظم المهاجرين مشيا على الاقدام.

شهد، التي بلغت من المراهقة ذروتها، وقعت بحب “وحيد” الذي كان والده يملك حانوت واشتهر ببيع حلوى “المضروب” التي يوردها من الراهدة، وغالبا ما كان يقدم لها في مواعيدهما الغرامية قطعتي “مضروب”، انتهت بتسليم نفسها له الى ن اصبحت حاملا، وحين اجبرته على الزواج، ابلغ والده وقص عليه نبأ الحادثة، إلا ان الاب أقسم فوق المصحف انه لن يتزوج بـ”عاهره” – حد تسميته- فقد كان متأثرا بحركة الاحرار وجمعته عدة لقاءات بابو الاحرار محمد محمود الزبيري، ويبدوا ان الاول تأثر بالاخير دينيا، ولكنه لم يتأثر اخلاقيا، وتم اغلاق صفحة “شهد” بخبر الانتحار شنقا باحدى اشجار السدر التي كانت في سواقي احدى مزارع والدها.

زهد هي الاخرى وقعت في الحب، وهربت من القرية، برفقة شاب اطلقت عليه صبايا القرية “ابو العود”، كان يتنقل مع والده من قرية الى اخرى، يرافقهما حمار فارع القامة غير بقية الحمير يطلق عليه “الصبياني”، ويبدوا انها فصيلة من الحمير تمتاز بارتفاع قامتها وضخامة جسدها.

تروي احدى السيدات، انها سمعت ذات صباح، صبايا القرية يتحدثن عند بئر الماء في الواد البعيد عن القرية وهن يهمسن في اذن “زهد” بان الغد هو اول الشهر الهجري، وهو ما يعني ان البائع المتجول ونجله سيصلان القرية لبيع بضائعهما وقد يبقيا كالعادة يومان او ثلاثة، في إشارة الى ان حبيبها – الذي عرف باسم ابو العود لبيعه العطور ضمنها العود- قادم في الطريق، فجميعهن يعرفن ولههما ببعض.

وتضيف، كن يسألن بعضهن عن ما قد تشتري كل منهم، فبعضهن تقول الحبة السوداء لانها تزيد من سحر مذاق اطعمة “الفتة وبنت الصحن”، وأخرى تقول العسل والحبة السوداء والجوز واللوز، فهي تحرص على تقديمهما سويا لزوجها الذي مضى على زواجها عامين ولم تحمل، فقد روت لها خالتها ان بنت عمتها نصحت بذلك، فقذد جربته وهو يعطي الرجل قوة بمختلف الجوانب، الامر الذي كانت تتعمد الفتيات اثارته بفضول لاشباع رغبتهن بالضحك، بينما شهد ذاهبتا بتفكيرها بعيدا وكأنها قد كانت تخطط لمشروع ما وترى ان موعد تنفيذه حان.

هذا ما كشفته “شفيقة” بنت “سالم” حين قرعت رأس “زهد” بحصية صغيرة وهي تقول “هيييي يا بنت اين قد سرحتي او تفكري بهذاك الموضوع الذي قلتي لي وعزمتي تنفيذه.. بلاش جنان”..

قاطعتها “زهد”.. ليس هناك ما هو اجمل من الجنون، او لم يقال مجنون ليلى؟!.

قاطعتهن ضحت “رقية”، وهي تردف: صحيح يا “شهد”، ولكن لماذا لم يقال مجنونة قيس؟

قاطعت جميعن السيدة المتنصَّته، بصوتها الشاحب، “قومين احملين الجرار اهلكن منتظرين الماء يا مجنونات”..

أُعجبت “زهد” بمصطلح مجنونات، وانتفضت وهي تردد “مجنونات.. مجنونات.. سأكون أول المجنونات”..

ضحكة مدوية اطلقتها شفيقة وفمها يلوك كلمات لم يفهمه جميعهن، وغادرن.

استيقظ الجميع على صوت نهيق الحمار “الصبياني”، وبدأ الرجال والنساء والصبايا يتدفقن للشراء إلا “زهد”، وفي صباح اليوم التالي، استيقظ اهل القرية وتعدادهما السكاني نقص فتاة، وقيَّدت القضية ضد “بائع العود المجهول”، لتزامن اختفاءهما بعد ان اعتادوا على ان يمكث بمعية والدة في القرية لاكثر من يوم.

وبالنسبة لعبده وعبيد، يقال انه تم استقطابهما من قبل تنظيمين كل منهما احداهما في اقضى اليمين والآخر في اقصى الشمال، وغادرا ولم يعد خبر عن أي منهما حتى اللحظة.

يقال ان الام هي الأخرى ماتت كمدا على حال اسرتها وزوجها، فشاخت في مقتبل عمرها، وتزوج عليها ابن خالها فتاة تصغرها بثلاثين عاما، بعد ان طلقها، لتعد الى دار شادي الذي لم تبق فيه سوى عامين ونيف، وتوفت.

وروت نساء الجيران انها كانت تقوم الليل تصلي وتنتحب حتى انه من شدة احمرار عينيها أصيبت في اشهرها الثلاثة الاخيرة بالعمى.

16 مارس/ آذار 2020م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى