مروان الغفوري يكتب مجددا موضوعا يثير اهتمام الملايين بشأن الولاية والامام علي

الإمام الفائض عن الحاجة..

أو: السيرة والترقيع.

مروان الغفوري *

“علي” حكاية فائضة عن الحاجة. علي الحقيقي شخص هامشي في الحرب والسلم والثقافة، أما علي الأسطوري، النسخة الوهمية من الرجل، فقد ملأ الدنيا ضجيجا. كل حكاية عن علي هي قصة خرافة، والخرافة يراد لها أن تملأ فراغا، ولكن ليس داخل التاريخ العربي- الإسلامي حيث ملأت الكتب النهر، وكان رحالة مسلم يتنقل بمكتبة من ١١٧ ألف كتاب على ظهور الجمال!

سيحاول علي شريعتي في “محن علي الثلاث” أن يشرح معنى استحقاق علي لدرجة إمام: إنه النموذج الأعلى الذي كانت البشرية على طول تاريخها تشعر بالحاجة إليه. سرعان ما سيناقض نفسه ويقدم دليلا عمليا على أن العرب استغنت عن “الإمام”، ولم تجد من حاجة إليه. شريعتي، المستنير، سيقول إن عليا ربط نفسه بالسلاسل (مجازا) ولزم منزله ربع قرن تاركا حقه في قبضة مغتصبيه كي لا يفتن أمة محمد. يتجاهل شريعتي حقيقة ما جرى للأمة العربية وعلي مكبل في السلاسل بين نسائه وجواريه: وضع العرب أقدامهم على ثلث العالم القديم. وعندما فك سلاسله وخرج من منزله قاتل العرب بعضهم بعضا. في الكتاب نفسه سيعترف شريعتي: كانت محنة علي أن العرب لا ترى له ذلك الحق. أن يفهم العرب الإسلام على ذلك النحو، بوصفه تحريرا ومساواة وإيمان بلا قيود، لهي فضيلة تاريخية للآباء المؤسسين للحضارة العربية، وقفزة عالية إلى الأمام تجعل من فهم علي للإسلام، مقارنة برؤيتهم، رجعية و”شركا”.

النهاية المأساوية لعلي في الكوفة، ٤٠ هجرية، دفعت الناس للتعاطف معه وذويه، فانضم إلى ترسانته الدعائية التي أسسها في الكوفة (دار ضرب الحديث، كما يسميها مالك) حشد جديد من أمصار عدة، سيملؤون كتب المغازي والسير بخرافات البطل والفقيه والفدائي. سيستمر تزوير التاريخ وسيفاجئنا الشيخ جعفر العاملي في القرن الواحد والعشرين بمؤلف من ٥٣ جزءا بعنوان “الصحيح من سيرة الإمام علي”! تتوالد الأكذوبة الأعظم في التاريخ وتستقل بنفسها كدين متكامل (نبي، رسالة، شهادة، فداء، كتاب، أتباع، ومنهاج)، وستعززها النهاية التراجيدية للحسين في كربلاء، وهكذا ستتوفر للدين الجديد عناصره الجوهرية وفي مقدمتها الفداء والاستشهاد، كما يذهب جورج طرابيشي في تعليقه على “موسى والتوحيد” لفرويد.

غير أن هذا الدين المنشق سيبتلع الأديان كلها، وليس الإسلام وحسب، وسيصبح نهاية للتاريخ (راجعوا مؤلفات الكليني، المجلسي، العاملي). رغم حجمها الضخم إلا أن الخرافة، التي ابتلعت كل شيء، عجزت عن أن تكون مكتفية بذاتها كدين، وأصرت على التحليق داخل أجواء الإسلام لتخوض معه صراعا مستداما على مستوى الأصول التأسيسية والبنية الفلسفية.

بقي علي، لا التشيع، يمثل أحد أهم الاختراقات المدمرة للخطاب الأخلاقي والعقلي للإسلام، تحديدا على صعيد العدل والمساواة وحرية الفرد، وكان “دين علي” قد برز مبكرا على مستوى الاصطلاح منذ القرن الأول الهجري، كما يلاحظ أمير معزي المتخصص في تاريخ التشيع.

لسنا بصدد نقاش التشيع كعقيدة، بل لنتحدث عن قصة زائفة في التاريخ العربي اسمها: علي كرم الله وجهه. ولأنها كذلك فقد استدعى الأمر إسنادها بكل ذلك النتاج الضخم من الحكايا التي تفتقر إلى أبسط مفاهيم الرواية والدراية، أي لما هو علم في مقاييس ذلك الزمن.

طرحت علينا كتب المدرسة، في طفولتنا، هذا السؤال: لماذا لم يلتق علي وخالد في معركة؟ ولقنتنا الإجابة:لأنهما لو التقيا لقتل علي خالدا، ولكن الله كان يدخر خالدا لما هو أعظم.

ولا ندري، حتى الآن، لماذا أدخر الله خالدا ولم يدخر عليا!

لنعد إلى لحظتين في مدينة النبي، ولنأخذ صورتين جويتين لها. الأولى: استقبال المدينة لخبر وفاة خالد بن الوليد في الشام (٢١ هجرية). تصدم المدينة، ويعلو نواح النسوة ويهرعن إلى الشوارع، ويخبر عمر، خصمه منذ الطفولة، بذلك فيقول “ما عليهن أن يرقن دموعهن على أبي سليمان” (البخاري، التاريخ الكبير) . لتكتمل الصورة سنذهب إلى البداية والنهاية (ج. ١٠) لنسمع وصفا موجزا وعبقريا لذلك المحارب العربي القديم: لم يقهر في جاهلية ولا إسلام. هكذا يكثف مؤرخ جسور سيرة رجل غني عن الخرافة والتضليل. يمكننا وضع حدود الحقيقة والخرافة على هذا النحو: يقود خالد زهاء مائة معركة، ويصنع علي لنفسه مجدا من صراعه مع بطل وهمي في ظلام ليلة الخندق!

الصورة الثانية: مقتل علي. تتلقى المدينة النبأ بتوجس، لا نساء في الشوارع، لا نواح، ولا إحساس بالفقد. فالرجل الذي سلب المدينة مركزها، وذهب مع المرتزقة وقطاع الطرق ليساكنهم على تخوم خراسان كان بالنسبة لمدينة الرسول قد مات منذ زمن. سيحدث شيء رهيب بعد زهاء عشرة أعوام، وستخرج المدينة على بكرة أبيها في جنازة الحسن بن علي، ذلك الذي ترك أحلام أبيه في العراق وعاد إلى المدينة تائبا ومهزوما. عن تلك الجنازة المهيبة، جنازة الإبن التائب، سيروي سبط الجوزي في مرآة الزمان/ج٧ (لو طرحت إبرة من السماء ما وقعت إلا على رأس إنسان).

كل قصة عن علي هي قصة خرافة، وقد برزت أعظم الخرافات في حياته وتحت سمعه وبصره. تحدثنا سابقا عن عزلة الرجل منذ أن قرر أن يبني ملكه على أكتاف قطاع الطرق، ويستخدم حتى النصارى في قتال عائشة، كما يدون اليعقوبي في تاريخه (من مؤرخي القرن الثالث الهجري). يمكن فهم خرافة علي بوصفها استراتيجية وجودية بالنسبة للرجل، ومحاولة لخلق فضاء قوة ناعمة خارج حدود مملكته في العراق. فضلا عن رغبة الرجل في تشكيل درع واق ضد المثقفين والشعراء الذين أمسكوا بتلابيبه ورفضوا شرعيته المبنية على الصدمة والرعب. لنستمع إلى واحدة من أهم شاعرات القرن الأول الهجري، ليلى الأخيلية. فبعد أن توجعت لمقتل الحاكم راحت تخاطب معاوية قائلة:
فانهض معاوي نهضة، تشفي بها الداء الدفينا.
أنت الذي من بعده، ندعو أمير المؤمنينا.

ويساهم حسان بن ثابت، بما له من وزن أخلاقي وفني، في مساءلة علي، يقول:
فقد رضينا بأهل الشام نافرة،
وبالأمير وبالإخوان إخوانا
يا ليت شعري، وليت الطير تخبرني،
ما كان شأن علي وابن عفانا!

واجه الشعراء، وهم القوة الضاربة آنذاك، عليا بقصائدهم التي تكيل المديح للخليفة الراحل وتشير ضمنا أو علانية إلى القاتل. كما ساهمت النساء المثقفات في ذلك الموقف الاحتجاجي الواسع. سيتذكر علي جيدا، وهو تائه في الكوفة بين المرتزقة وقطاع الطرق، موقف إنتلجنسيا المدينة ومكة، وسيرد على طريقته (ضرب الحديث وتأليف القصص). لنسم بعض شعراء تلك الطبقة الثقافية ممن اقتربوا شعريا من الحدث الرهيب، اغتيال الحاكم: كعب بن مالك، زينب بنت العوام، أيمن بن خزيمة، الوليد بن عقبة، أيمن بن فاتك الأسدي، وآخرون (الكامل في التاريخ، تاريخ الأمم والملوك، البداية والنهاية).
كما يرتجز الوليد بن عقبه قصيدته الشهيرة، وسيقول فيها:
بني هاشم كيف التعاقد بيننا،
وعند علي سيفه وجرائبه.

سيتهم عليا بسلب عثمان بن عفان، بالمعنى المجازي والعملي، ويقول مخاطبا بني هاشم:
سواء علينا قاتلوه وسالبه!

والوليد بن عقبة هذا هو أخ الخليفة عثمان لأمه، وكان واليه على الكوفة. وهو هنا يتهم بني هاشم بتدبير مقتل أخيه، ليصلوا إلى الحكم:
همو قتلوه كي يكونوا مكانه
كما غدرت يوما بكسرى مرازبه!

الحقيقة أن تلك الأرجوزات والقصائد لم تجد من يردها نثرا ولا قافية، لا من الطالبيين ولا سواهم، وبقيت شهادة حية لها الكلمة العليا حول ما جرى. كما لو أنها قد وافقت انطباعا عاما عن دور (مفترض أو حقيقي) لعلي في الإطاحة بالنظام وقتل رأسه.

هكذا ستأتي قرارات علي لتقول الشيء الكثير، فهو لم يتلكأ عن محاكمة قتلة عثمان وحسب، بل صاروا جيشه الضارب، جيشه الوحيد. سرعان ما أطاح بكل ولاة عثمان من البلدان، من مصر إلى اليمن، كأنه كان يهيل تراب التهمة على رأسه ويؤكدها. لقد عمل على تصفية نظام سلفه قبل أن تجف دماؤه. وكما سيفعل مع كل قتلاه (سنأتي على اغتيال الأشتر فيما بعد) فإن عليا سيبكي عثمان وسيبشر قاتليه بالنار. استفاد علي من مقتل كل خصومه، وفي كل مرة كان يخرج رابحا وأخلاقيا، يؤكد مملكته ويبشر قتلة أعدائه بالنار! كانوا يذهبون إلى النار ويربح هو الدنيا والآخرة. تلك السيرة، بحذافيرها، سيستكملها أحفاده داخل تلك المنظومة الأخلاقية المتفردة التي سنسميها: علي كرم الله وجهه.

لنعد إلى أولى قرارات علي بن طالب: تعيين بني هاشم ولاة على اليمن، الحجاز، والعراق. كما سيقيل والي عثمان على مصر وينصب ربيبه وابن زوجته محمد بن أبي بكر، الرجل الذي اقتحم دار عثمان وطعنه في عنقه (مؤرخون يخفضون درجة جريمته إلى جر الخليفة من لحيته وهو يقتل). أقدم علي على تلك القرارات قبل أن يستقر له من أمر الدولة شيء.

كانت رؤيته للدولة أنها مؤسسة هاشمية، كما سنعرف، وكان ذلك مبلغه من فهم الإسلام، أو رؤيته “النيبوتية Nepotism” للحكم: عائلية السلطة من أجل نظام مستقر ومستدام. أو كما سيقول مصطفى ناجي، الكاتب اليمني: يرون الإسلام على هيئة شركة لها مؤسسون لا يمكن المساس بحقوقهم، وعلي هو المؤسس الثاني.

تلك القرارات الخطرة، عائلية الدولة الجديدة، اتخذت دون مشاورة مع المتمردين (الثوار) بقيادة الأشتر. كان الأشتر يرى إن إنجازه المتمثل في تصفية عثمان ونظامه يستوجب اقتسام السلطة مع علي، أي بين الفارس والمفكر، فلولاه لما وصل الأول إلى مبتغاه. غضب الأشتر، وهو يرى الهاشميين يتسيدون البلدان، واحتج أمام رجاله قائلا “علام قتلنا الشيخ إذن” يقصد عثمان ( بحار الأنوار، ج. ٤٢). بلغت مقولته عليا فاستدعاه، وراح يلاطفه قائلا إنما وليت أبناء العباس لا أولادي، فقد سمعته يطلب الإمارة من رسول الله مرارا!
كان علي، الجائع إلى السلطة، يدرك ورطته المتعاظمة. لقد تفرق عنه الناس (ابن تيمية، منهاج السنة، ج. ٤) وصار منقسما بين عائلته الظامئة إلى النفوذ والثروة وبين الثوار الذين يرون لهم حقا أصيلا في بنية الدولة الجديدة. بين خوفه من حلفائه واستسلامه لطموحات أهله صار “رجل بلا رأي”، كما يصفه قيس بن سعد عامله على مصر (ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم).

في نهج البلاغة ستختلق قصة عن عدالة الرجل: أحمى حديدة وأوجع بها شقيقه “عقيل” حين طلب منه نفوذا وسلطانا، معلما إياه درسا حول نزاهة الحاكم! ولا ندري لماذا تلقى عقيل لوحده الدرس بينما ذهب باقي أسرته ليحكموا البلاد من اليمن إلى العراق، باعتراف نهج البلاغة نفسه. إن ترقيع سيرة الرجل مهمة أصعب من خلق تلك السيرة، والمهمتان فشلتا في غمر الحقيقة بالماء إلى الأبد، إذ سرعان مما تتصادمان وتبينان تفاهتهما: السيرة والترقيع.

يتبع..

  • من صفحة الكاتب في فيسبوك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى