طريق (دمت الضالع).. أسوار واسلاك شائكة في الوطن الكبير
تقرير- معين قائد الصيادي
رجال ونساء يخترقون الشعاب والاحراش ويتسلقون الصخور وعلى اكتافهم اطفال رضّع وخلفهم صبية يقودون حمير على ظهورها حقائب وامتعة سفر، وشبان يتدحرجون من الأعلى وعلى اكتافهم نعوش تحمل مسنين.. “يا الله يا الله.. ” الصوت الوحيد الذي يتردد صداه في جبال منطقة مريس على تخوم مدينة قعطبة، في مشاهد تروي وجع يسكن قوم منفيون داخل وطنهم..
تجسدت المأساة أواخر العام 2018م مع اغلاق جماعة الحوثي المسلحة المدعومة من إيران طريق “دمت قعطبة” في منطقة مريس، (وسط اليمن)، ومنع تنقلات ابناء المنطقة أو المرضى والمسافرين، أو البضائع والاحتياجات الاساسية.
نعـــوش
ولاجتياز طريق مغلق مسافته 3 كم، بفترة زمنية لا تتجاوز 15 دقيقة وبكلفة اقتصادية لا تتعدى 500 ريال يمني، “أي اقل من دولار أمريكي واحد”، اصبح هناك خياران وحيدان، الاول: اجتياز السكان والمسافرين طريق راجلة أطلق عليه (نقيل الجبهة) ملتوء وجبلي صعودا وهبوطا بمسافة 5 كم وعلى ظهورهم حقائبهم وحاجاتهم واطفالهم الرضع مستعينين غالبا بالحمير لنقل الحقائب، وهذا الخيار الذي تراه الجماعة (هدية ذهبية) يتعرض لاغلاق اشهر وفتحه اسابيع محدودة.
المشاهد الانسانية الموجعة لنتائج هذا الخيار وثقت عدسات الصحفيين والهواتف الذكية للمسافرين بعض منها لنسوة طاعنات في السن واطفال رضّع في احضان امهاتهم امعنت الشمس الحارقة بجلدهم لساعات حد اغمائهم، بينما اجهضت عدة حوامل بعد مرورهن من ذات الطريق.. مرضى بينهم مسنون لا تسمح سوء حالاتهم الصحية بترجلهم أو حملهم على الاكتاف، حُملوا على النعوش وهم احياء يرزقون، وليس سوى صوت “يا الله يا الله” تُردد صداه الجبال الشاهقة من يمنة ويسرة.
أمّا ضحايا عمليات القنص الحوثية كنوع من الترويع ومنع السفر لمضاعفة المعاناة فهم الأكثر، وكان يوم الاحد 29 مايو الماضي شاهدا بتوثيق آخر عملية نفذها قناص حوثي يتمركز في تبة مريفدان المتاخمة للطريق استهدف الحاج مصلح علي منيف (55 عاما)، لتصعد روحه إلى بارئها في اليوم التالي متأثرة بالإصابة. بينما قتل يوم امس بعملية قنص مماثلة في منطقة خرطوم يعيس، المواطن محمد حمود العامري، ويعمل “دلالا” في بيع الملابس وينحدر من محافظة تعز
وأمّا الخيار الثاني فهو سلك طريق بديل بالعودة للخلف (جنوبا) بالنسبة لسكان الجهة الجنوبية للطريق المغلق، والمرور عبر (قعطبة، الضالع، لحج) جنوباً، ثم (تعز) غربا و(إب) شرقا، ومنها التوجه شمالاً حتى مفرق (يريم دمت) والتوجه شرقا عبر الرضمة ثم الانحدار جنوبا إلى نقطة النهاية مدينة (دمت)، وبمسافة تزيد عن 400 كيلومتر. وبساعات سفر تقارب 24 ساعة، وبكلفة مادية تقارب ما يساوي 150 دولاراً امريكيا (أجور مواصلات ومأكل ومشرب).
استــنزاف
الحصار من منظور الحوثيين له ابعاد اخرى ذات أهمية اكبر، وتحديداً اقتصادية، في مقدمتها استنزاف القدرة الشرائية للفرد وإغراقه في الفقر، فالطرق البديلة تضاعف اسعار نقل البصائع والأدوية والاحتياجات الأساسية القادمة من جانب، ومن آخر تخضع لرسوم جمركية جديدة استحدث الحوثيون لتحصيلها مكاتب خاصة في المنافذ الحدودية بين المناطق الخاضعة لسيطرتهم والخاضعة للحكومة الشرعية، أبرزها في (تعز، ذمار، رداع، الحديدة، الجوف.. وغيرها)، تعود عليهم بمليارات الريالات شهرياً، وهي الاعباء الاضافية التي يتحملها المواطن أيضاً.
وذكر مدير مكتب الصناعة والتجارة بالضالع، ان الزيادة المفروضة بسبب اجور النقل والجمارك الحوثية وهامش ربح التاجر تجاوزت منذ بداية الحرب 500%. في حين تدنى مستوى دخل الفرد لاكثر من تلك النسبة.
تخـــــادم
وإضافة إلى الأهمية المحلية لطريق “دمت- قعطبة”، يعتبر الخط الرئيس الرابط بين صنعاء وعدن امام آلاف المسافرين قبل ان يلجأؤن إلى الطريق البديل عبر (يريم، إب، تعز، لحج، عدن)، وهو الطريق الذي يحوي بديل اخر في (هيجة العبد) يحتوي نحو 20 كم خط ريفي غير صالح لمرور الشاحنات الكبيرة. وهذا خططت له عمدا الجماعة ووظفته لصالحها لغرض التضييق على الناس ورمي الكرة في ملعب الخصوم وغالبا ماتنجح امام ضعف الجانب الاعلامي للاخر علاوة على تناخر فصائله فيما بينها.
وفي حملة مطالبة بفتح الطرقات المغلقة، اطلقها اليومين الماضيين ناشطون من ابناء المنطقة على مواقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، اتهموا جماعة الحوثي والامم المتحدة بالتخادم وعرقلة فتح الطرقات المغلقة في دمت وتعز والحديدة وغيرها، وفقا للهدنة التي قدمتها في 2 ابريل الماضي.
وتضمنت الهدنة الاممية (ايقاف شامل لعمليات اطلاق النار برا وجوا، فتح موانئ الحديدة، فتح مطار صنعاء، فتح الطرقات المغلقة)، نفذ التحالف الداعم للشرعية اليمنية والحكومة الثلاث البنود الاولى من طرفهم ورفضت جماعة الحوثي تنفيذ البند الرابع من طرفها، بالرغم من المفاوضات المستمرة في الاردن بين الطرفين وتمديد الهدنة لشهرين اضافيين، الا انها اكتفت بابداء موافقتها فتح طريق ترابي في تعز لا غيرها..
كل ذلك لا يحمل مؤشرات ايجابية اذا نظرنا الى الشق الاخر من الهدنة وهو استمرار تصعيد الحوثيين عسكريا بخروقات يومية، بحسب التقارير اليومية للقوات الحكومية، في دلالات واضحة لرغبتهم بتفجير الوضع عسكريا بعد ان كسبوا ما لم يكن في حساباتهم بفتح المطار والموانئ.
ومن شواهد امعان جماعة الحوثي بمضاعفة معاناة السكان اغلاقها طريق رئيس سارعت بفتحه القوات المشتركة في مايو الماضي بالحديدة، لترفض فتحه من جهتها والسماح للمسافرين بالعبور.
ذلك التمادي يعود إلى التخادم الدولي والحوثي في جوانب عدة من ابرزها، افشال تحرير موانئ الحديدة اواخر 2018م بتدخل الامم المتحدة تحت مزاعم اثار الحرب على صلاحية تشغيل الميناء والجانب الانساني.. والغاء إدارة الرئيس الامريكي جو بايدن في 16 فبراير 2021م، قرار إدارة سلفه “ترامب” بعد اقل من شهر على تصنيف جماعة الحوثي “منظمة ارهابية”.. وصمت مجلس الأمن الذي وثقت تقارير خبرائه الدوليون السنوية جرائم “اختطافات، تعذيب واغتصاب سجينات، وتجنيد وتحشيد اطفال للجبهات..الخ” مورست من الحوثيين المدعومين من إيران، إلا من التلويح بالعصاء من البعيد على جميع الاطراف، كنوع من الابتزاز.
ومع كل ذلك مازال ملايين اليمنيين المحاصرين من الداخل يرقبون لحظة صحوة ضمير تعلن بشرى اطلاق سراح الشعب من معتقلهم الضيق خلف اسوار واسلاك شائكة صنعتها الطرقات المغلقة والاطماع المتنوعة داخل الوطن الكبير بشعبه وتاريخه ليتحول إلى منفى داخل لابنائه.