محمد بن سلمان… القائد الضرورة وتحولات الزمن العربي

مصطفى محمود *

في الأزمنة المتكسرة لا تولد القيادة من الوفرة بل من فراغ يستدعي الكسر من انسداد يعيد تعريف ما هو ممكن. وفي التاريخ العربي الحديث، حيث تكررت الهزائم حتى تحولت إلى هوية، وذبلت الدول حتى صارت خرائط تتنفس بالوكالة، ظهر (محمد بن سلمان) لا كامتداد لنظام أو تراكم لمؤسسة، بل كقوة اضطرارية أعادت تدوير أسئلة النهضة من خارج خطابها،

لقد أسيء استخدام تعبير <القائد الضرورة> في العالم العربي، حتى تلبس وجوه الطغيان أكثر مما عبر عن معنى الضرورة ذاته. لكن من يستعيد المفهوم من مجاله الفلسفي، سيجده متحررًا من الأحكام السياسية، منتميًا إلى لحظة تاريخية ينهار فيها كل شيء، ويصبح الفعل الحاسم هو الحد الفاصل بين الانقراض والتحول.
ان ما يميز محمد بن سلمان ليس صعوده السريع، ولا سياساته الجريئة، بل أنه أعاد رسم مفهوم القيادة من داخل الدولة نحو الإقليم. لم يكن ما فعله في السعودية محصورًا في برامج تنمية أو تعديل أنظمة بل في كسر سردية الخليج بوصفه هامشًا مريحًا للاستهلاك والنجاة، وتحويله إلى مركز فاعل في إنتاج الأمن العربي، وإعادة بناء الإقليم من بوابة الدولة.

حين انفتح على سوريا لم يكن يطبع مع نظام، بل ينتشل الجغرافيا السورية من عزلتها الوجودية، ويعيد ربط دمشق بتاريخها العربي كشرط ضروري لاستعادة المعنى. لم يعد العرب يملكون ترف الاستبعاد، ولا يمكنهم ترك العواصم تتآكل باسم الخلافات. وحين دعم الشرعية اليمنية، لم يكن ذلك تموضعًا استراتيجيًا فقط، بل محاولة لإعادة إنتاج الدولة اليمنية بوصفها جزءًا من معادلة إقليمية لا يمكنها البقاء مجزأة.

سوريا في عقل محمد بن سلمان ليست فقط ورقة سياسية، بل مفتاح لاستعادة التوازن العربي. واليمن ليست مجرد جبهة أمنية، بل نقطة ارتكاز لمستقبل البحر الأحمر والخليج والجزيرة معًا. وفي الحالتين، كانت “الضرورة” تقود الفعل، لا الطموح المجرد.

حين يتقدم رشاد العليمي في اليمن، أو يُعاد تفعيل أحمد الشرع في سوريا، فذلك ليس لأنهم أقوى من الجغرافيا، بل لأن محمد بن سلمان يحاول هندسة معمار الدولة من جديد، عبر استعادة الرموز التي يمكن أن تنقذ بقايا السيادة. لا يسعى لتصدير نمط سعودي، بل لتحريك الركود داخل الدول الأخرى بأدواتها، لكن برؤية فوق قطرية. العليمي، مثل الشرع، ليس قائدًا كاريزميًا بقدر ما هو تجسيد لرهان على الدولة كمفهوم، لا النظام كأداة. وهذه تمايزات حاسمة. إذ لا مستقبل للعرب إن لم تُستعد الدول من قبضة الميليشيا، والطائفة، والفراغ.

إن أخطر ما واجهه العرب في العقود الأخيرة لم يكن العدو الخارجي، بل انهيار المعنى السياسي الداخلي: أن تصبح الدولة بلا فكرة، والقيادة بلا رؤية، والسياسة بلا أفق. وفي هذا الفراغ، لم يكن التحدي إنتاج بطل جديد، بل استيلاد نمط قيادة يفهم أن بقاء الإقليم رهين بإعادة تعريف ضرورات الوجود العربي نفسه. محمد بن سلمان، بهذا المعنى، لا يشبه عبد الناصر ولا حافظ الأسد، ولا حتى صدام حسين. هؤلاء قادوا بزخم الأيديولوجيا أو الدبابة أو التاريخ، أما هو، فيقود من داخل هندسة المصالح، وتقاطعات الاقتصاد، وحاجة المستقبل إلى بنية عقلانية للسيادة.

الضرورة هنا ليست عباءة شرعية، بل اختبار للمسؤولية. إذ لم يعد مقبولًا أن نعيش على ذكرى الدولة، أو نراوح بين النكبة والانقسام. ولا يمكن للعرب أن يستمروا في الحداد على أوطانهم باسم النقاء، بينما الآخرون يصوغون جغرافيتهم من جديد. إن لحظة الضرورة لا تكتمل بدون فاعل يتقاطع فيه الوعي والفعل. ومحمد بن سلمان، بكل ما يثيره من جدل، يُجبر التاريخ العربي على التوقف: أن يعيد النظر، ويطرح الأسئلة، ويعيد تقييم الزمن نفسه.

لقد حفر شقًا في الجدار الذي سد على العرب أفقهم لقرون. وفي هذا الشق، تسرب ضوء جديد: أن الدولة ممكنة، وأن العروبة ليست ماضٍ خجول، بل إطار واقعي لإعادة هندسة المستقبل.

حين نتأمل صعود محمد بن سلمان في ضوء انهيار النظام العربي التقليدي، نكتشف أننا لا نقرأ سيرة شخص، بل نعيش ولادة مفهوم جديد للقيادة في زمن الضرورة. قيادة لا تنقذ بلدًا، بل تعيد المعنى إلى الإقليم كله. قيادة لا تقوم على “الضرورة الأمنية” كما اعتدنا، بل على الضرورة المفهومية: أن تنقذ ما تبقى من العقل السياسي العربي، قبل أن يبتلعه الفراغ نهائيًا.. إنه ليس بطلًا، ولا نبيًا، بل صدى الزمن العربي حين يستفيق من غيبوبته الطويلة، ويقرر أن يمشي على قدميه، لا على ظلاله.
14 أيار/مايو 2025م
– كاتب وباحث يمني

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى