طوفان الأقصى.. بعبارة أو بأخرى…
زياد البسارة
طلبتُ من تلاميذي في الصف التاسع كتابة تعبير مقتضب، لا يزيد عن عشرة أسطر، حول عملية طوفان الأقصى، من حيث الدروس الملهمة والعبر الموجعة التي حملها هذا الحدث الجلل في ذاكرتنا العربية والإسلامية.
وللأمانة العلمية، لستُ أنا من يستحق براعة اقتراح فكرة الكتابة عن هذا الموضوع، نظرًا لحساسيتي المفرطة تجاهه، بل إن الذين وضعوا ونقّحوا هذه المناهج الدراسية الجديدة التي بين أيدينا اليوم هم من يستحقون ذلك وأكثر، باعتبارهم هم من طلبوا من أبنائهم الطلاب الكتابة عنه، بل أصرّوا واستكبروا على جعله عبرة لكل من لا يعتبر في مقرراتهم ومدارسهم، حتى لو كان موضوع الدرس حول “تلوث البيئة”، فلا بد أن يتطرقوا إلى فوائد عملية طوفان الأقصى من النواحي الجمالية والصحية وما إلى ذلك. أما دوري فقد انحصر فقط في أنني أضفتُ إلى السؤال عبارة “والعبر الموجعة…”، ربما لقناعتي بضرورة احترام وجهات النظر المختلفة، والتي من أجلها شُرّع في الأساس فن التعبير والكتابة الإنشائية.
لقد استطاع القليل من هؤلاء التلاميذ كسر عقدة الإنشاء المفروضة عليهم في بضعة أسطر، طغى عليها أسلوب الاقتباس والتلقين الذي نحن بارعون فيه شعرًا ونثرًا وفكرًا وأدبًا، وبطريقة لا توحي إطلاقًا بأننا قادرون على إنتاج جيل يمتلك وجهات نظر مستقلة، وقناعات ذاتية لا تخضع لثقافة التلقين والإملاء التي تكرّسها أعرافنا الاجتماعية والثقافية، والتي شكلت بمجموعها هذا الفراغ المعرفي في بنية الطالب اليمني غير القادر على مواكبة احتياجات العملية التعليمية التي تتطلب التجديد والتنوع في وجهات النظر والرؤى.
كان واضحًا في مجموع هذه المحاولات التعبيرية الناشئة وجود حالة من الإجماع بين الطلاب على حصانة هذا الموضوع من أي احتمالات سلبية، حتى لو كانت مجرد تلميح، وقد لمستُ ذلك من خلال تبادل أطراف الحديث معهم.
وعلى الرغم من أنني عرّفت نفسي أمامهم على أنني أمثل تفكير جيل محبط، لديه الكثير من التحفظات والملاحظات التي يخشى أن تتعارض مع وعي المجتمع وقناعاته، وأني على النقيض منهم، إلا أنهم مطالبون بأن يتنفسوا عليل الأمل والإصرار والعزيمة لخوض معترك الحياة، بعيدًا عن اجتهاداتنا السوداوية وتصوراتنا المظلمة، إلا أن ذلك لم يُجنبني اتهام طلابي لي بأنني عميل إسرائيلي يخدم مخططات الكيان الصهيوني، وينشر بذور اليأس والإحباط في مجتمعه! وكأنني أخضع لتحقيق في مقر جهاز أمن الدولة، لولا أن صوت الجرس أنقذني من هذا الفصل المكتظ بالمواهب والإبداعات النسوية، فصار لزامًا علينا إغلاق باب الحديث في هذا الموضوع.
بعبارة أو بأخرى…
يراد لهذا الحدث المأساوي، العابر للكوارث البشرية والمصائب الإنسانية، أن يتحول في ذاكرتنا العربية إلى مزار تاريخي مقدس، تتعبد حوله الأجيال بالشعارات الفضفاضة والانتصارات الزائفة. ليس هذا وحسب، بل يصبح الطواف حول هذا الحدث، حتى من زاوية نتائجه السلبية، نوعًا من الخوض في المحظور أو المساس بقدسية بطولاته.
وهم -بهذا التفكير المضلل- إنما يستأصلون جذور النقد والملاحظة والتمييز من وعي جيل لا يرى الواقع إلا كما رآه أبوه عن خاله عن جده!
وخير دليل على ذلك هو الإصرار على تقييم عملية طوفان الأقصى فقط من زاوية ما حدث في السابع من أكتوبر، وانتهى -بالنسبة لهم- عند مشهد إذلال الأسرى والمختطفين الإسرائيليين فجر ذلك اليوم، وما رافقه من تكبيد جيش العدو خسائر في العتاد على يد أبطال المقاومة، متناسين في الوقت ذاته مشاهد القتل والتعذيب والتجويع والحرمان التي تعرض لها شعبٌ كاملٌ طيلة عام ونصف من هذا الطوفان المدمر للأرض والإنسان.
بعبارة أو بأخرى…
يراد لهذا الشعب الفلسطيني المظلوم، المغلوب على أمره، أن يدفع بالنيابة عنّا ظلمًا وعدوانًا فاتورة التعاطف الأجوف والمشاعر العقيمة التي رافقت تضامن شعوب المنطقة مع القضية الفلسطينية منذ ٧٥ عامًا من تاريخ صلاحية معاناة هذا الشعب.
وفي هذا التوقيت المتأخر جدًا من أزمنة النكسة والنكبة، ما زال الكثير منا ينظر إلى عملية طوفان الأقصى من منظوره الخاص، وكأنها مجرد امتداد لنصر السادس من أكتوبر ١٩٧٣م، حين عبرت الجيوش العربية خط برليف واستعادت جزءًا من الأراضي التي احتلتها إسرائيل في ١٩٤٨ و١٩٦٧. لكن الواقع يشير إلى العكس من ذلك، خصوصًا أن عملية طوفان الأقصى أثارت حفيظة إسرائيل مجددًا، مما دفعها إلى إعادة النظر في احتلال ما تنازلت عنه سابقًا في الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة، بذريعة حماية أمنها القومي والإقليمي من تهديدات المقاومة.
بعبارة أو بأخرى…
يراد لهذه الأمة الإسلامية الضائعة أن تعيش في سبات الفتوحات الإسلامية في القرون الغابرة، بل وعلى فتات انتصارات، يعتقد كثيرون أن الدعاء بالويل والثبور على الكيان الصهيوني من على منابر صلاة الجمعة كفيلٌ بالوصول إلى نصر مؤزر، لا يختلف كثيرًا عما حدث للمسلمين في غزوتي بدر والخندق! ولو كان الأمر كذلك، لما كان من الضروري أن يجهد الرسول الكريم وأصحابه أنفسهم بحفر الخندق حول المدينة، طالما أن عليهم انتظار الرياح العاتية التي اقتلعت الأحزاب وجيوشهم وفرّقت كلمتهم.
وفي عالمنا الذي انتهى فيه زمن المعجزات، تستيقظ مدينة غزة الفلسطينية اليوم على وقع كابوس مدمر لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها في كتاب حزنها الطويل، بعد أن ضاعت كل أحلامها تحت أنقاض عملية تسلل، اعتقد القائمون عليها أنها مجرد معادلة رياضية بسيطة للتوصل إلى صفقة تبادل أسرى، لكن ما حدث -مع الأسف- هو تبييض هذه المدينة من كل معالم الوجود أو مظاهر الحياة، منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى.