محاكمة الفلسفة
صايل بن رباع
تخيلوا معي، في عالمٍ آخر، بعيدًا عن حدود الزمن والمكان، قد اجتمع كبار الفلاسفة والعقول التي شكلت الفكر البشري عبر القرون، وأيضًا بعض من رواد الفكر المعاصر. هنا، سقراط يجلس إلى جوار ابن خلدون، والفارابي يتبادل الآراء مع محمد عابد الجابري، وكونفوشيوس يشارك بحكمته الشرقية، وغاندي يتحدث عن فلسفة اللاعنف، بينما فوكوياما يدخل في جدلٍ حاد حول نهاية التاريخ. إلى جوارهم يجلس الفيلسوف الروسي المعاصر ألكسندر دوغين، الذي يعكس بفكره تحديات النظام العالمي الجديد ودور روسيا في تحديد ملامحه.
ليس هذا مشهدًا من التاريخ، بل حوارًا عابرًا للأزمنة، حيث هؤلاء المفكرون، وقد غادروا عالمنا منذ قرون، يجدون أنفسهم الآن وقد عادوا ليناقشوا مصير الأرض وما يحل بالبشرية.
فوكوياما، الذي أعلن سابقًا نهاية التاريخ، يجد نفسه مضطرًا لإعادة التفكير في فرضياته، بينما دوغين يعزز رؤيته القومية الأوراسية كبديل للنظام الليبرالي الغربي. سقراط لا يزال يطرح أسئلته التي لا تنتهي عن العدالة، فيما يتأمل ابن خلدون في دورة الحياة الإنسانية وصعود وسقوط الدول. الفارابي يتحدث عن المدينة الفاضلة، بينما الجابري يُعيد شرح آراءه عن العقل العربي وإشكالاته.
كل منهم يتحدث باسم دولةٍ أو حركةٍ معاصرة، مدافعًا عن توجهاتها ومحللاً سياساتها. هم ليسوا مجرد مراقبين للعالم، بل مشاركون فيه، يناقشون صراحة مستقبل الديمقراطية الغربية التي تبدو وكأنها تتصدع تحت ثقل تناقضاتها. فوكوياما يتساءل: هل حققت الديمقراطية الغربية العدالة؟ أم أن النماذج التشاركية القائمة على قياس رضى المجتمعات وسعادتها ستفرض نفسها في نهاية المطاف؟.
ومن ثم يتجه الحوار نحو أزمات الحضارات الكبرى: من سقوط الإمبراطوريات الرومانية والإغريقية إلى تحديات الخلافة الإسلامية، مرورًا بالصين القديمة والهند والإمبراطورية الفارسية. كل حضارة تحمل دروسًا لليوم، وكل فلسفة تُسهم في فهم عالمنا المعاصر.
المحاكمة :
في فضاء أثيري لا تحده حدود الزمن والمكان، تتجمع أرواح الفلاسفة العظام الذين شكلوا الفكر البشري عبر القرون. مشهد من الاحتجاجات في شوارع الغرب، الحروب في الشرق الأوسط، وتقدم التكنولوجيا في آسيا يُظهر التحديات المعاصرة. يناقش الفلاسفة القيم، الديمقراطية، وصراع الأمم، بينما يدافع كلٌ منهم عن رؤية مختلفة للعالم، كل منهم يحمل رؤيته الفلسفية وتجربته الفريدة.
سقراط (يتحدث بحكمة): “نحن الآن في زمن لا ينتمي لنا، ولكننا نفهمه. صراع الأمم وتفكك القيم. هل سيتجاوز الإنسان هذه العثرة؟”
ابن خلدون (يشير إلى الأرض): “الحضارات تتبع دورة لا تتغير. لقد شاهدت صعود الدول وسقوطها. الغرب اليوم في تشبع، وقد يفقد سيطرته مثلما فعلت الإمبراطوريات من قبله. العدل الحقيقي يحكم التاريخ، وليس مجرد الديمقراطية الغربية.”
الجابري (متأملاً): “لكنه زمن مختلف، يا ابن خلدون. شعوبنا الإسلامية تواجه صراعًا حضاريًا معقدًا. أين العدل في هذا النظام العالمي؟ هل يمكننا تحقيق العدالة تحت سيطرة القوى الكبرى؟”
الفارابي (بهدوء): “الحكمة السياسية تتجاوز الصراعات اللحظية. المدينة الفاضلة هي غايتي، ولكنني أعلم أن الإنسان ليس مثاليًا. كل نظام سياسي سيظل ناقصًا.”
كونفوشيوس (بتفكير عميق): “الحاكم الفاضل هو أساس النظام السياسي. لكن اليوم، الدول تحكمها القوة، وليس الفضيلة. أين هي القيم التي تجمعنا كأمة بشرية؟”
غاندي (بنبرة حزينة): “العدالة لا تتحقق بالقوة ولا بالديمقراطية وحدها. الحركات السياسية أصبحت أدوات في أيدي من يسيطرون على الثروة. هل هذا هو العدل الذي حلمنا به؟”
كارل ماركس (قاطعًا): “النظام الرأسمالي هو من يقود هذا الظلم. الدول الكبرى، سواء أمريكا أو الصين، تسعى للثروة والقوة، وتنسى العدالة الاجتماعية.”
فوكوياما (متأملاً): “ربما كنت محقًا، يا ماركس. الديمقراطية الغربية تواجه تحديات لم أتصورها. الشعبوية تتصاعد، الفجوة بين الأغنياء والفقراء تتسع. لكن هل هناك بديل أفضل من الديمقراطية؟”
سبينوزا (بهدوء): “الحرية الحقيقية تبدأ من داخل الفرد. الديمقراطية فشلت لأنها أعطت الأولوية للحرية الفردية على حساب المصلحة الجماعية.”
كونستانتينوف (بنبرة قاطعة): “الديمقراطية الغربية ليست سوى واجهة للاستبداد الرأسمالي. نحن نؤمن بقوة الدولة وبناء مجتمع قائم على التضامن والمصلحة الجماعية.”
غاندي (يبتسم بحزن): “لكن العدالة بالقوة لا يمكن أن تكون حقيقية. العالم بحاجة إلى حكمة جديدة، تتجاوز القوة والعنف.”
دوغين (بصوت هادئ): “النظام العالمي يتغير، والقوى الغربية تواجه زوالًا. روسيا وأوراسيا تقودان بديلاً حضاريًا جديدًا.”
ابن خلدون (مؤكدًا): “الصراع على السلطة والثروة هو المحرك الأساسي للتاريخ. قد نحلم بعالم عادل، لكن الواقع يقول إن القوة هي من تفرض النظام.”
سقراط (متأملًا): “ربما ما نحتاجه هو نظام سياسي يدمج الحكمة القديمة والطموحات الحديثة. العدالة، الحرية، والسعادة لا تقاس فقط بقوة الدول، بل برضا شعوبها.”
(يتحول الحوار إلى جدل محتدم بين الفلاسفة)
ماركس (بغضب): “تحدثت عن الحكمة والفضيلة، لكن هل يمكن للفضيلة أن تغذي البطن الجائعة؟ لا يمكن أن نتجاهل أن العدالة الحقيقية تتطلب إعادة توزيع الثروات.”
كونفوشيوس (بتحدٍ): “لا يمكن أن نبني مجتمعًا على الجشع. الحاكم الفاضل هو من يزرع القيم الأخلاقية في نفوس الناس، وليس من يستغلهم.”
فوكوياما (محاولًا التهدئة): “لكن الديمقراطية، رغم عيوبها، تظل الأمل في التغيير. نحن في عصر المعلومات، حيث يجب أن نعتمد على وعي الجماهير.”
الجابري (مستدركًا): “لكن وعي الجماهير يتشكل تحت تأثير النظم الاقتصادية والسياسية. كيف نضمن أن تكون هذه الجماهير قادرة على التمييز بين الخير والشر؟”
الفارابي (مدافعًا): “قد تكون المدينة الفاضلة بعيدة، لكن لا ينبغي أن نفقد الأمل في السعي نحوها. الفلسفة ليست مجرد تأمل، بل هي دعوة للعمل من أجل تحسين العالم.”
(صمت يخيّم على الفلاسفة بينما يتأملون جدلهم، ثم يتحدث سقراط)
سقراط: “إننا بحاجة إلى مواجهة الصراع المرير الذي يعيشه العالم اليوم. الصراعات ستستمر، ولكنها قد تؤدي إلى اتفاق مصالح بين الأقوياء. في النهاية، قد تسود مفاهيم جديدة تتجه نحو تحقيق العدالة، حيث تتجاوز قوة الدول المصلحة الفردية وتعمل من أجل الخير العام.”
يبقى الجدل الفلسفي مستمراً وملهماً ولكن
في خضم التحولات التي يشهدها العالم اليوم، تتزايد الدلائل على تآكل القيم والمفاهيم التي اعتدنا عليها. تسير البشرية نحو مصير غامض، حيث تُهدد الاختلافات العميقة بين القوى الكبرى بإشعال صراعات مريرة. لا تتعلق هذه الصراعات فقط بالمصالح الاقتصادية، بل تشمل أيضًا الهويات الثقافية والدينية، مما يزيد من تعقيد الأوضاع.
يرتبط انعدام الثقة بين الدول والحركات الاجتماعية بنزاعاتٍ محورية حول الموارد والأيديولوجيات. في هذا السياق، يُطرح سؤال جوهري: هل يمكن أن تؤدي هذه الفوضى إلى تأسيس نظام عالمي جديد يعيد تعريف العدالة والقيم الإنسانية؟ يرى البعض أن الصراع الذي تعيشه البشرية قد يكون مدخلًا إلى إعادة التفكير في العلاقات بين الدول، مما يتيح فرصًا جديدة للتعاون والتفاهم.
ومع تصاعد التوترات، قد يضطر الأقوياء إلى التفاوض على اتفاقيات مصالح مشتركة تتجاوز الاختلافات. في خضم هذه الفوضى، يمكن أن يظهر مفهوم جديد للعدالة، قائم على مبادئ التعاون والتضامن. ومن هنا، قد تنشأ قيم جديدة تعكس تطلعات الشعوب نحو عالم أكثر إنصافًا، حيث يتبنى الجميع مبدأ العدالة الاجتماعية.
وبذلك، يتبين أن الصراع ليس نهاية الطريق، بل قد يكون بداية جديدة لبناء عالم أكثر توازنًا وعدالة. إذا استطعنا تجاوز التحديات الحالية، فقد نجد أنفسنا أمام فرص غير مسبوقة لإعادة تشكيل القيم والمفاهيم التي تحكم عالمنا، بما يتماشى مع تطلعات الشعوب نحو السلام والعدالة.