حاشد يكتب| رسالة إلى أبي

أحمد سيف حاشد

كم أحبك يا أبي.. عندما كنت أكتب عنك، شاهدتك في الحلم غاضباً ووحيداً.. ربما اعتدت أن أراك غاضباً، ولكن حز في نفسي أن أراك وحيداً.. هل أنت غاضب مني يا أبي؟! أنا لا أقصد بحال الانتقاص منك أو الإساءة إليك حالما أكتب عنك، فأنا بعض منك، ومن مداك في سلسلة طويلة ومستمرة من الموت والولادة.. امتداد يغالب الفناء والرحيل والانقطاع في حياة ستستمر، ولن تكف عن الوجود والولادة.

أعذرني إن كتبت بعض من وجعي في غيابك الذي لم استطع أن أعبره لأصل إليك رغم المحاولة، وقد انتهيت إلى الفشل في الوصول إليك؛ لأطلب منك إجازة ما أكتبه وانشره عنك؛ فالتمس منك عذرا وغفرانا إن جانبت الصواب في لحظة خانني فيها التعبير، أو تسربت كلمة في غفلة مني، أو تمردت اللحظة، وأفلتت من بين أصابعي .

اعذرني إن كتبت شيئا لا يعجبك، أو ربما يؤلمك، فقد صرت ألتمس لك ألف عذر، وصرت على علم بسلامة طويتك وحسن نيتك، ولا بأس أن أخبرتك اليوم أنني صرت أبا مثلك لسبعة أولاد وبنات.. كلانا لنا في حسن النية شفاعة، وكلانا لم يتطرف أو يغالي في شدته إلى ما بلغه المثل: “ومن الحب ما قتل”.

أنا لا أقصد يا أبي تسجيل أي بطولة عليك، وأي بطولة هذه التي يمكن أن يسجلها ولد على والده.. لست أنا من يسجل بطولة على أبيه، حتى وإن بلغت العظات والعبر لمن يحتاجها في بيئة تكاد تغلق بابها على نفسها وتختنق، في وسط باذخ بالنفاق والزيف والادعاء.


كم مزّقني مشهد أن اراك وحيداً في الحلم.. أحسست أنك تعتب وأنا أذهب إلى أصغر التفاصيل.. شعرت كأنني أحاكمك في غيابك محاكمة غير عادلة تشبه محاكمة متهم في غيابه الذي فرض عليه كالقدر، وليس لنا فيه يدا أو خيارا.

ربما أحسست بضميري يتهمني أنني أصادر حق حضورك، أو أغفل في لحظة هاربة حقك في الدفاع عن نفسك، فيما أن الأمر كان مستحيلا حال دون الوصول إليك، ولطالما سألت نفسي كيف يكون حضورك؟! وكيف أستعيد وجودك، أو أستحضر روحك الشفيفة؟!!

حاولت تحضير روحك مستزيداً ببعض ما قرأت.. حاولت أن أبلغك وحشتي وافتقادي الكبير لك.. أردت أن أعرف أخبار عالمك المحاط بغموض شديد، إن كان يوجد ثمة عالم مواز صرت إليه..!! أنا شغوف بمعرفة تفاصيل عالمك الذي رحلت إليه.. لقد حاولتُ يا أبي في ليل شديد السواد أن أستحضر روحك الندية، وطيفك الذي كنت أشعر أنه يسأل عني، وعن اي حال صرت إليه..!

شعرت وأنا احاول تحضير روحك بما يشبه موجات أثيرية تداهمني، وتسري في جسدي من أسفله وأطرافه إلى أعلاه.. تيار من موجات الأثير تكتسحني من القدمين إلى الكتفين وتصعد إلى الحنجرة في عودة وتكرار، وكأنني أتشبع بأثيرك.. الموجات الأخيرة كانت أقوى من تلك التي قبلها.

صوتك تحشرج في حنجرتي، أو حنجرتي هي التي كانت تحشرج بما خلته صوتك، أو كان صوتي يحاول العبور إليك، أو كان صوتك وصوتي يحاولان العبور إلى المستحيل.. بدأ الصوت في حنجرتي ثقيلاً وشاحباً كصوت مسجل نفدت طاقته، أو صلاحية البطارية المشغلة لها.. شعرت أن أحدنا قد تقمص الآخر.. أحسست بحالة تلبس.. قلبي كاد يقفز من فمي، ولم أحتمل التجربة.

قمتُ فزعاً مرعوباً والهلع يستحوذ على أوصالي، ووجهي شاحب وممتقع.. لم تكن تجربتي الأولى التي أحاول استحضار روحك يا أبي، ولم أستطع أن أكمل ما بدأت من تجربة بدت لي مضنية، ولا أعرف ما ستفضي إليه، هل إلى كشف عمّا أبحث عنه، أم موت الذي يتحدّى الاستحالة، أو العبور إلى اللاوعي، أو الاجتياز إلى عالم الجنون وزوال العقل؟!!

أردت أن أستسمحك واستأذنك فيما أكتبه وأنشره عنك يا أبي.. أردت أن أسألك عن أحوالك وعالمك الذي صرت إليه، وأبحث من خلالك عن سر الحقيقة، أو تفاصيلها التي نبحث عنها ولم نجدها..! أردت أن أقطع الشك باليقين، وأن أتحقق من كل الأقاويل والمزاعم التي تكتظ في رؤوسنا منذ بدأ الإنسان يتسائل عن وجوده.

ربما بعض ما حدث كان وهماً أو خيالاً في المستحيل، أو محاولة للعبور من الوعي إلى اللاوعي، ولكن كان لدي الأهم، أنه يكشف عن حاجتي لك، والولوج إلى عالمك، ورغبتي في عناقك الذي لم أتجاسر أن أطلبه منك في حياتك لهيبتك.. لقد كنت مهابا يا أبي، فيما كانت السبع السنوات الأخيرة من حياتك الندية مشبعة بالود والعطاء وأنت تسندني، لتخفف عني أوجاع الحياة، ومساعدتي في حمل بعض المتاعب التي أثقلت كاهلي.


لقد أحسست بعتبك يا أبي، وأنا أكتب عنك، فعدت لأكتب عن ذلك الكبير الذي كان يسكنك، وما يليق بك كأب وإنسان.. لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي وجدتك بالصدفة وأمي جوارك، وأنت تجهش بالبكاء ودموعك تغرق عينيك، وتنساب سياله على خدودك كجدول رقراق.. فيما روحك كانت تشهق إلى أعلى، وكأنها لا تريد أن تعود إليك.. تنتحب بحرقة ومرارة وكربة لا تريد أن تغادر جسدك المثقل بتداعي الحزن والألم.

تفاجأت وأنت توغل في البكاء الأجش، وتحمل ذلك القدر من القهر الذي طفح.. لم أدرِ يومها ما سبب بكائك، ولم تخبرني أمي عن أي قهر قد أصابك، ولكن عرفت لاحقاً السبب الذي كتمته عنّي أمي، ثم سرتني به بعد إلحاح منّي، وتردد أعتراها.

ليس عيباً يا أبي أن نرى دموعك.. ليس عيباً أن ترينا تفاصيل حزنك في وجهك الباكي أيها الإنسان.. ما كان عليك أن تشيح عنّا بوجهك لتخفيه عن عيوننا، وأنت تجهش بالبكاء، وتحاول أن تدس رأسك بين أكياس “قشر البن” التي كانت جوارك في ركن دكانك الحزين، لتولي لنا ظهرك، وتواري عنا خريطة حزنك في وجهك العاري، وعيونك الذابلة التي غيب الحزن لمعانها، ودموعك التي لمحتها عند استدارتك، وكانت تنهمر كالمطر.

علمت يا أبي أنك كنت تستذكر وتبكي أخي علي.. ولدك الذي كنت تعتز به، وتستحضر طيفه وخياله الكثيف، رغم مرور السنوات الطوال على رحيله.. كيف استطعت أن تخبئ عنا كل هذا الحزن الذي يسكُنك، والقهر الذي أثقل روحك سنوات بكتمان وصبر ومجالدة بلغت حد الموت كمدا، دون أن يعلم أحدا منا ما تعيشه من مغالبة وكتمان..؟!

رائع أنت يا أبي.. لم أكن أعلم أنك تخفي عنّا كل هذا العذاب، والغياب والفقدان داخلك، وداريت عنّا كل هذا الكمد الذي يبدو أنه صار أكبر منك، فتمرد عليك في لحظة هاجت بكل هذا العنفوان.

أردت أن أقول لك يومها: أبكي ما استطعت يا أبي، ودع الدموع تنهمر كما تشاء، ولا تمانعها ولا تقم بقمعها، ولا تخجل وتتحرج منّا أيها الإنسان، واستعن بالصبر المجالد حيال ما يسببه الموت لنا من وحشة وغياب لأعز من نحب.


إن سألت اليوم عن أحولنا يا أبي فأبلغك إننا صرنا نعيش المصائب كلها.. اليوم يتمدد الموت وتزدهر المقابر.. كم هي عظيمة أيامكم رغم بؤسها وحرمانها.. لم تعد من مقارنة لنا بين أيامنا وأمسكم.

اليوم توالت وتكالبت علينا الأعسار والمصائب كلها في حضرة الحرب والموت والبشاعة.. انقلبت المفاهيم، واختلت المعايير، وتكسرت الميازين، وفاق ما حدث ويحدث كل خيال، وما لم يكن في بال وحسبان.

نعيش حرب ضروسة طال مداها، ومعها نعيش حروبا أخرى مع جرع لا تنتهي، وفساد مهول، وتجار حروب، وجشع لا يشبعه مُلك، ولا تكفيه كنوز قارون.. حروب مع الجوع والجهل والمرض والأوبئة وكل ما هو فاتك وشديد.

اليوم يا أبي تسيدت التفاهة وتفاهة التفاهة شعوبنا، وتربع التافهون على أشلاءها طغاة وحكام.. ما هو محتل صيروه على نقيض اسمه!! والكراهية بلغت ذراها، والعنصرية بات لها مخالب وأنياب، وبعضهم صيرها قرآن كريم ممنوع مسها بنقد أو اعتراض.

لسنا من أشعل الحرب يا أبي.. نحن الضحايا الذين خسرنا في رحى الحرب كل شيء.. حصاد مرعب وعبث مجنون وحلم مُحترق.. غياب موحش، وفقدان وطن، فيما خزائنهم باتت عامرة بالمال و”الإيمان”، من دم وجوع ودموع شعبنا الذي تسلّطوا عليه بالحديد والنار.

الجماعات والقوى السياسية في بلادنا يا أبي أختبرها الواقع مرارا، فمجرد أن تصل إلى السلطة تتطلع إلى الاستفراد بها.. يتضخم ذاتها، وتكثر هوجسها، وتتضاعف مخاوفها، وتنحاز إلى أنانيتها، وتعظم لديها مصلحتها الصغيرة على مصلحة الوطن الكبير.

تتنمر على من حولها، وتقصي من أول فرصة ممكنة لها من كانوا شركاءها، بعد اقصى خصومها ومنافسيها فعليين ومحتملين.. تقصي من له رأيا أو فكرة تثير جدلا في أوساطها، ويكفي أن تتوهم أنه ينبئ عن ميول انشقاق في صفوفها مستقبلا، ثم تنكب على إزالة أثرهم وتشويههم وتقبيحهم، ومحاولة انساء الناس حتى ذكر اسمائهم.


بعض من الحال يا أبي، هو انقلاب المفاهيم رأسا على عقب، وأختلاط المعايير عاليها بسافلها، وشعواء يختلط حابلها بنابلها.. بات الاحتلال تحرير، والارتهان هدف سام وعال، والقرآن طريق معبدة لعبودية مذلة.

حالنا في جانب منه تحاكيه رواية 1984 لجورج أورويل وقد فرضوا علينا بالحديد والنار التسليم والتصديق أن 2+2 = 5 ، وأن الحرب هي السلام، والعبودية هي الحرية، والجهل هو القوة، أما التفكير فهو أم الجرائم، ويجري على نحو حثيث فرض الخضوع والطاعة والولاء الكامل للأخ الكبير دون تفريط بقيد أنملة..

يجري تدجين العقل وتزييف الوعي واستلاب الإرادة، وسطوة فارطة ومرعبة يتم من خلالها صناعة الخوف، وفرضه علينا لإخضاعنا على نحو يجري فيه استرقاقنا، بل وتحويلنا إلى حال نعيش فيه حالا أشد وطأة وأسوأ من حال العبيد.

ما حدث ويحدث يا أبي هو تبدل وتغير وانقلاب في المفاهيم إلى ذلك الحد الذي يكشف رداءة الواقع، والاختلال العميق الذي يغزو مفاهيم ومنطق الأشياء.. انحدار سحيق للمعايير، وبؤس شديد للسياسة والثقافة.. إننا نعيش أزمة واقع، وأزمة مفاهيم، وأزمة ديمقراطية، وأزمة ثقافة، وانحطاط ساسة.

  • نائب في برلمان صنعاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى