البسارة يكتب عن| أربعينية العالم المفقودة في ربع غزة
زياد البسارة *
وحدهم شعب غزة الناجون في هذا العالم وجميع من سواهم أموات على قيد الحياة..
وفي هذا اليوم الذي يصادف ذكرى مرور أربعون يوما على وفاة 7 مليار نسمة هم تعداد سكان هذا العالم الذي تحلل إلى بقايا إنسانية أو أشلاء بشرية فلا يكاد أن يرى لهم أثرا أو تقيم لهم وزنا – يأبى أهل غزة إلا أن يحتفوا بهذه الذكرى على طريقتهم التي لا تخلو من الحزن أو الأسى.
خلف نوافذ مجمع الشفاء الطبي حيث يطوقه الموت بآلة القتل الإسرائيلية من جميع الاتجاهات- يقف جمع المحاصرون داخل هذا المبنى (أطباء ونساء وأطفال خدج) ساعات صمت متواصل حداداً على أرواح سكان هذا العالم الذين كانوا خير متفرج عليهم وهم إذ يتنقلون بمأساتهم من مخيم إلى مخيم، ومن موت إلى موت محقق دون أن يحرك هذا العالم ساكناً أو يسكن متحرك إليه ولسان حالهم يقول: هي الحياة بكلها محطة عبور والأيام دول وتلك الأيام نداولها بين الناس.
ومن مخيم جنين حيث ترفض قوات الاحتلال الصهيوني منح سكان المخيم ترخيص ممارسة حرية البكاء على هذا العالم في ذكرى أربعينية وفاته – يفتتح أحد الاطفال العالقين تحت الأنقاض هذه الذكرى بتلاوة آيات بينات من كتاب الله مصحوبة بتكبيرات وتشهدات حناجر آلاف المصابين والجرحى العالقين أيضا – وهم إذ يلتمسون الرحمة من خالقهم لهذا العالم الذي فارق الحياة متأثرا بجروح أصابت ضميره بمقتل من الجبن والهوان الذي فرضته حكومات الشعوب على رعاياهم الذين بايعونهم على السمع والطاعة.
وإلى مخيم جباليا حيث يواصل طيران العدوان الإسرائيلي قصف كل شبر من هذا المكان بدعوى محاربة الإرهاب المقاوم – تتسارع أحداث العويل على شكل مفرقعات صوتية تحمل رسائل تنديد وأستنكار وتضامن مع ما تعرض له هذا العالم المفقود من ضمور في إنسانيته وخدش في كرامته وفتور في نخوته وهو إذ يناضل بالنباح في الشوارع إحتجاجا على ما يحدث لإخوانه في فلسطين كما يفعل العرب – أو يجاهد بطلب النصر والثبات والعزيمة بالدعاء من على منابر المساجد كما يفعل المسلمون- أو يكتفي بالتنديد والادانة والشعور بالقلق واحيانا الدعوة إلى التهدئة كما يفعل مجلس الأمن والأمم المتحدة والمجتمع الدولي.
وفي شارع صلاح الدين حيث يوزع الاحتلال شهادات الوفاة بالمجان وبطريقة عادلة لا تستثني بشرا أو شجرا أو حجرا – يستحضر أهل غزه مناقب هذا العالم الفقيد المفقود في صورة تذكارية تعود للعام 1948 حين وقف هذا العالم وما يزال عاجزاً عن إيقاف عمليات التهجير وموجات النزوح وشلالات الدماء التي سفكت على هذه الأرض المباركة بما حولها وكيف عاش هذا العالم متخاذلاً عن آدميته منسلخاً عن بشريته وهو يستمتع بمشاهدة أشلاء النساء ودماء الاطفال كيف تتطاير على الهواء مباشرة، وها هو اليوم يدفع ثمن وجوده العبثي بالخروج عن نطاق خدمته للحياة.
وعلى هامش الأنين الذي يلازم أطلال مساكن دير البلح منذ أعلن المتحدث باسم عزرائيل وفاة هذا العالم بشكل رسمي- تصر سيدة فلسطينية على إلقاء كلمة أهل غزه بهذه المناسبة والتي أعربت خلالها عن خالص التعازي والمواساة لهذا العالم الذي عانى من مرض عضال أقعده منذ زمن طويل على فراش النوم.
وفي محضر شهادتها على ما كانت عليه سيرة هذا العالم في حياته لم تعثر السيدة المسكينة في سجل هذا العالم ما يستحق أن تقول عنه “أذكروا محاسن موتاكم” وكل ما لديها لعنات تتلوها اللعنات في تاريخ هذا العالم المشحون بالنفاق والجبن والكراهية ورغبات التوحش.
وأمام معبر رفح حيث تتدافع برقيات التعازي والمواساة القادمة من سائر الكواكب والمجرّات الصديقة لكوكب الأرض بهذا المصاب الجلل- تنتهي فقرات هذا العزاء بالسلام العالمي الجديد لشعب غزه وهم إذ يودعون إخوانهم سكان هذا العالم الفقيد المفقود بقولهم:
أننا لن نسير على خطى صمتكم وجبنكم
ولن نقتفي آثار عجزكم وضعفكم
ولن نؤمل على خيركم أو شركم
لن ننتظر بعد اليوم
قوافل مساعداتكم
ولا فضلات حسناتكم
ولا بقايا طعامكم
ولا سموم دواءكم
ولا جهود إعماركم
اليوم….
سنزرع الكفاح خبزا لماضينا
ونعصر الحب زيتونا لحاضرنا
ونحصد الخير ثمارا لمستقبلنا
- صحافي وكاتب من اليمن