المخاء .. كما رأيت 1-3
بقلم/ يحي عبد الرقيب الجبيحي
” الزمن .. بطئ جداً لمن ينتظر .. سريع جداً لمن يخشى .. طويل جداً لمن يتألم.. قصير جداً لمن يحتفل!”.. مقولة منسوبة للشاعر الإنكليزي “وليام شكسبير” في منطقة: (منهاتن) وسط مدينة نيويورك، على مقُربة من مبنى يُسمى مجازاً بـ (الأمم المتحدة) دخلت مقهى، يقدم القهوة التركية وغيرها، اسم المقهى، كما هو مُثبت فوق المبنى: (Moka coffee)!..
وكأن اسم المقهى هو الدافع لي بدخوله وليس الرغبة في احتساء القهوة!! وهو ما تكرر معي شخصياً بميدان (بيكادلي) وسط مدينة لندن، وفي شارع (الشانزليزية) وسط العاصمة الفرنسية باريس، وببعض عواصم ومدن عربية وغربية وإسلامية أخرى من التي زُرتُها دارساً أو سائحاً أو صحفياً أو عابراً … الخ.. وبحسب ما قرأت وتابعتُ .. فإن اسم: (موكا كوفي) يتكرر كاسم وعنوان في غير مدينة من مدن العالم، وحينما كنتُ أدخل أي مقهى يحمل نفس الاسم ..
فرغم معرفتي المُسبقة بما يعنيه الاسم إلا أنني مع ذلك .. كنت استفسر أحد رواد نفس المقهى أحياناً والمدير أو النادل غالباً عن معنى الاسم وسبب اختياره ولو من باب التفاخر! وكانت الردُود تأتي بمضمونها موُحدة .. مع الفارق في المكان وفي اللغة والتعبير وطريقة أو أسلوب الرد، وهي أن (موكا) تعني اسم اشهر ميناء عربي في القرون الخمسة الماضية، كانت السفن والمراكب تمخر منه – وهي تحمل أطنان (البُن) متجهة إلى غير مكان من دول العالم .. أنه ميناء (المخاء).. الذي تعنيه تلك الردود..
ورغم أن كل ما بات يُقدم في تلك المقاهي الغربية وبغيرها من أنواع: (البُن) لم يُعد له علاقة بقهوة (المخا) ولا (بن اليمن) .. إلا أن شهرة وجودة (بُن اليمن) الذي كان يُصدر إلى خارجه من ميناء (المخا) هما وراء حرص أصحاب تلك المقاهي على وضع الاسم في الواجهة الخارجية للمقهى.
- حيث ظلت تلك الشهرة والجودة لبن اليمن والذي ظل ولا يزال يُعرف بـ (المخا) (Moka) تتناقله الأجيال جيل بعد جيل..
- هذه هي (المخا) التي لا تزال كاسم حية وحاضرة ببعض المقاهي بمختلف مدن العرب والعجم بل ولاتزال كذلك في ذكريات وشعور مُعظم السياح الغربيين ممن زاروا اليمن وحرصوا على زيارة ميناءها الذي كان ؟!! إضافة إلى تكرار الاسم والصفة بمُعظم مؤلفات المؤرخين والرحالة الغربيين الخاصة باليمن وبمن في اليمن. – أجل (المخا) التي تقع غرب مدينة (تعز) والتي كما ظل ميناءها بالاسم .. سيظل بعد إعادة تأهيله هو ميناء تعز محافظة ومدينة كمطارها الذي أوشك على الانتهاء ثم للمحافظات والمدن القريبة والبعيدة من وطننا اليمني الكبير!!
- لقد ظللت بكل زيارة لهذه المدينة أو بالأحرى لهذا (الميناء) عند تواجدي على الساحل .. أنظر إلى بحرها بكل حب وعشق وتأمل .. فأتذكر أيام عز (المخا) حينما كان أهم وأشهر ميناء لليمن والعرب خاصة في تصدير (البن اليمني) من مينائه إلى مختلف دول العالم .. حتى ظلت قهوة (موكا) همزة وصل بين الشرق والغرب .. إضافة إلى تحميل المراكب والسفن أنذاك البهارات واللبان، والبخور وغيرها من المنتوجات اليمنية .. التموينية والتجارية والتي جعلت لليمن يومها.. سيطرة وأولوية في التواصل والتبادل التجاري مع الأمم..
- وأن فاقت واشتهرت تجارة وتصدير (البُن) عما عداه.. – ولم يكن مينا (المخا) مكتفياً بتجارة وتصدير (البن) وغيره وإنما ظل الميناء المُفضل والأقرب لبعض أبناء اليمن ممن فضلوا السفر عبره هروباً من بطش (الأئمة) وجورهم.. والذين ظلوا ينخرون في جسد اليمن لعدة قرون.
- فها أنا اتخيلهم يركبون بعض المراكب والسفن كما واتخيل دموعهم تنهمر على خدودهم حُزنا على فراق وطن .. وعلى أسر وعوائل وأطفال تحتضر حتى ألف اليمني الاسفار .. وليصبح البحر لمعظمهم نعم الصديق والمنقذ لهم !! ويزداد تخيلي ونظري لا يزال يحدق في بحر (المخا) إلى حجم الألم والقهر عند أولئك الهاربين من وطنهم وهم في (الشاطئ) يلقون نظرة قد تكون هي الأخيرة لهم أو لبعضهم على وطنهم (البائس) المُصاب بأولئك (الأئمة) الذين جاءوا من بلاد (فارس) باسم الدين وحب بنية وسلالته! مستغلين سذاجة وأمية وأطماع قبائل (شمال الشمال)!! ولم أؤمن بمقولة (التاريخ يُعيد نفسه) إلا حينما قام أحفاد أولئك (الأئمة) حسب زعمهم بإنقلاب مشؤوم يوم 21 سبتمبر 2014م!!..
- وبنفس التوجه والاهداف وطريقة الاستغلال رغم حجم التغيير في شتى أوجه الحياة بين الماضي والحاضر؟! فما أكثر العبر وأقل الإعتبار!! – أجل .. يلقون أولئك الهاربون نظرتهم التي قد تكون هي الأخيرة لهم أو لبعضهم على وطنهم (البائس).. ثم يصلون إلى غُربتهم ويظلون فيه أجساداً.. بينما أرواحهم وأفئدتهم تظل في وطنهم عامة وفي مسقط رأس كل واحد منهم خاصة.
حتى ولو أصبحت أرض الغٌربة الجديدة موطناً لبعضهم ووجد فيه إلا من بعد الخوف والسعة بعد الضيق والغنى بعد الفقر والسعادة ظاهراً بعد الشقاء إلا أنهم يظلون مرتبطون بوطنهم الأول.. والذي يظلون يزورونه ولو بجوازات (جديدة) بين آن وأخر وبعضهم يُفضل الاستثمار بوطنه عما عداه رغم معرفتهم بالعديد من العراقيل وغيرهاً.. وبعضهم يفضل قضاء ما تبقى من عمره في وطنه الآصل .. وذلك هو ما قد يميز الإنسان اليمني عما عداه ماضياً وحاضراً.. – التمس العُذر أن أطنبتُ في الخروج عن عنوان الموضوع .. لولا أن الشيء بالشيء يُذكر!! – وإذا .. هذا هو (المخاء) الذي كان حديث الشرق والغرب.. والذي لم يشتهر بمينائه فقط بل ظل ولا يزال معروف بتراثه وببعض علمائه وأعلامه .. ولا تزال شهرة الشيخ الصالح ” شمس الدين علي بن عمر القُرشي الشازلي” جامع داواوين السادة الشاذلية والمتوفي بالمخاء عام 828 هجرية – كما جاء ذلك في كتاب (طبقات صلحاء اليمن) المعروف بتاريخ البريهي بجزئه الثاني صـ 355..
- أقول لا يزال هذا العلَم وأمثاله في لسان أبناء المخاء خاصة وأبناء اليمن عامة.. حتى جاء (الائمة) المتأخرون لينشروا العبث والحروب والمجاعة والجهل في غير مدينة ومحافظة ومنطقة باليمن عامة وفي مدن ومحافظات ومناطق اليمن الأسفل خاصة، والمخاء واحداً منها!! والتي حُظيت بإهمال متعمد رغم أهميته كميناء وامتيازه بتاريخ عريق .. لكن الإهمال له إلى درجة النسيان هو الذي ساد .. ولأنه ظل بنظر أولئك (الأئمة) الفجرة مجرد منطقة من المناطق شبه البعيدة عن المركز (المقُدس؟!!)..
- وحينما قامت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة عام 1962م.. دخلت بحرب أهلية شغلتها عن تنفيذ بعض أهدافها المعُلنة وعن الاهتمام بالمخاء وأمثال المخاء.. إلا من اهتمام ضئيل .. وزاد الإهمال من بعد اختلاط احفاد (الأئمة) بثوار ثورتي 1948م و 1962م.. أعني بعد ما يسمى بالمصالحة الوطنية عام 1970م وكان للمخاء نصيبه من ذلك الإهمال رغم رفده لميزانية الدولة بمبلغ لم يكن ذلك ضئيلاً حينها! وللتأكيد على ما أقوله هنا..
أورد بعضاً من رسالة لرجل (التنوير) الأول .. وأحد أبرز رجال ثورتي (1948م) و(1962م) الأستاذ المفكر، الغيور على مثل وقيم وطنه وأمته – أحمد محمد نعمان – طيب الله ثراه.. – فلقد قرأت رسالته التي رفعها لزميله القاضي/ عبدالرحمن بن يحيى الارياني – باعتباره كان رئيسا للمجلس الجمهوري .. وذلك بشهر نوفمبر عام 1970م وكان الأستاذ حينها مستشاراً للمجلس الجمهوري بعد تفضيله لتقديم استقالته من رئاسة الوزراء لأسباب.
– لا أخال هذا المكان مناسب لذكرها!! – حيث قام – رحمه الله – بزيارة خاصة وقصيرة للمخاء لتكون تلك الزيارة سبباً لرفعه تلك الرسالة المرفوعة لرئيس المجلس الجمهوري والتي أعتبرها كما جاء برسالته تلك: (القشة التي تقصم ظهر البعير إذا زاد حمله)!. – مشيراً برسالته إلى حجم الصدمة التي أصابته وإلى درجة شكه بوجود دولة تعتبر المخاء جزء من اليمن ، بسبب مشاهدته لحجم الخراب والدمار بها ولمظاهر البؤس والفاقة والمرض على وجوه مواطنيها، وركز على أهمية عدم تجاهل تلك المأساة، حتى ولو لم يأت الحرص من خلال مشاعر إنسانية نحو المواطنين البائسين.. فليكن الحرص على زيادة المكاسب والفوائد التي تجنيها الدولة بجانب المصالح التي تضاعف ثرواتها وأرباحها من ميناء المخاء نفسه، ومن خلال جمركه..
ودون أن يستفيد (المخاء) كمدينة من تلك الإيرادات في معالجة مريض أو تعليم جاهل أو إطعام جائع أو بناء خراب.. حسب تعبيره.. مقارناً بما يحدث للمخاء – بما يحدث لمطار (الجند) و لقصر (صالة) من إهمال شبه معمد من الدولة.. الخ..
- مؤكداً برسالته التي خاطب الأستاذ بها الرئيس الارياني باعتباره زميل.. بأن ما يربطه به ليس المشاركة في الحكم بقدر ما هي المعارضة للحكم منذ ما يزيد عن 30 عاماً.. إلى غير ذلك مما جاء بتلك الرسالة من نقد هادف وبناء وأسلوب في التخاطب دون تجريح ولا إشهار، وما تمثل أيضاً من صور الثقافة والإبداع وغرارة الفهم وضرب الأمثلة وحسن الاستنتاج .. وغير ذلك مما كان يتحلى به الأستاذ خاصة ومعظم روادنا الأوائل عامة رحمهم الله .. ولو الإطالة لأوردت نص الرسالة كاملة التي يمكن لمن يرغب بقراتها والاسترشاد بجوهرها – فعليه العودة إليها، ومن لم يجدها .. أتشرف بتزويده بنسخة منها.
_ وإذا .. ظل اهمال (المخاء) ومينائه مستمر بعد ثورة 26 سبتمبر 1962م وان لم يكن بنفس اهمال ما كان قبلها! وأوردت بعضاً مما جاء برسالة النعمان ودون النقل نصاً .. كدليل لما اقول هنا بما يخص ذلك الاهمال.. والذي ظل كما شاهدته عام 2008م زيارتي قبل الأخيرة (للمخاء) فرغم وجود بعض التطور التنموي كسفلته بعض الشوارع وبناء مباني حكومية خدمية (وعسكري وامنية) ومدارس وغيرها .. والتي قد لا تكون موجودة عند زيارة الاستاذ النعمان لها عام 1970م إلا ان الاهمال ظل ولو من جوانب أخرى عديدة.. رغم ما مرت به اليمن خلال الفترة من عام 1970م وحتى عام 2008م من تطورات تنمويه وغير تنمويه وما يقتضيه الزمن ذاته! وما حدث من تطور ضئيل (للمخاء) لا يراعي اهميته ومكانه ومكانته بل ولا عراقته..
وطال الاهمال الميناء حيث تظل تمر شهور دون وصول باخرة تجارية عامة أو حكومية باستثنئاء باخرة تدخل ميناء (المخاء) كل شهر او شهرين مرة واحدة، وهي تخص إحدى البيوت التجارية اليمنية المعروفه.. (أتحدث هنا عما شاهدته في زيارتي قبل الاخيرة عام 2008م) خاصة مع تعدد مؤانى الدولة. والذي كان له دور في اهمال الميناء حسب فهم كاتب هذه الدردشة. وفي نفس الوقت فإن معظم المباني السكنية واوجه الحياة العامة مع ضآلتها.. جاءت من خلال الرواد اليمنيين الذين استوطنوا المخاء وبالذات من بعد ثورة 26 سبتمبر 1962م _ فكانوا وراء استمرار الحياة بالمخاء عامة وفي ميناء ها العريق خاصة .. والذين جاوا من مناطق يمنية عدة .. خاصة من بعض مناطق الحجرية ومن مديريتي جبل حبشي وشرعب اي من نفس محافظة (تعز) والذين لولاهم بعد الله .. لكان المخاء أثراً بعد حين.. والسؤال هنا.. والذي قد يدفع القاريء لهذه الدردشة – إن وجد- أن يسأل نفسه به وهو عن معرفة الدوافع لكاتب هذه الأحرف على المخاء اليوم خاصة وأنني قد كتبت عنه بعد زيارتي قبل الأخيرة له عام ٢٠٠٨م ونُشر ذلك بصحيفة ٢٦ سبتمبر الأسبوعية في ٢٠ يوليو ٢٠٠٨م بعنوان (المخاء.. مخ اليمن).
ولمعرفة الدافع لذلك هو ما أوردت تفاصيله في الحلقتين الثانية والثالثة من عنوان هذه المقالة وهما الأهم واللتين ستنشران لاحقاً بعون الله.