أحمد سيف حاشد يكتب عن| مدرسة الوحدة.. “1”

أحمد سيف حاشد

(1)
مدرسة الوحدة

دراستي الأولى كانت في مدرسة “الوحدة” ”شرار” في “القبيطة”.. بدأت هذه المدرسة بمدرِّس واحد فقط لجميع المواد، وهو من مواليد “الحبشة” لأب يمني من القرية، اختير ليدرّس أبناء المنطقة المحرومين من التعليم القراءة والكتابة، وشيئا من المعرفة والتعليم الأساس على نمط كان على مقاس تلك الأيام حديثا ومتقدما في مناطقنا، ويُستخدم فيه الدفتر والقلم، ومغايرا لما كان معهودا وموجودا من قبل.. كان التعليم في قرانا على أيامنا عزيز، ويُكتسب بجهد مضني ومثابرة كديدة. بمقابل نقدي متواضع، ومقدور عليه من قبل الآباء.. هذا الأستاذ القدير المدانين له في تعليمنا الأول، بل ربما في تعليمنا كله هو الأستاذ علي أحمد سعد لا سواه.

كان التعليم قبله في مناطقنا قليل ونادر، ويأخذ شكل قراءة القرآن، وكتابته باللوح والدواء والجَرع.. أذكر أنني سمعت عن سيف مطهر الذي كان يعلّم الأطفال القراءة والكتابة على اللوح الذي يُحمله الأولاد على ظهورهم، وهم يرتادون ما كانت تُسمى بـ “المعلامة”، ذاهبين وآيبين إليها.. وكانت تلك الدراسة تقليدية جدا، وتعتمد على الحفظ، والترديد الجماعي لما يقرأه الفقيه، وتبتدئ بقراءة الحروف بطريقة “أ” لا شيء له و”ب” نقطة من أسفل.

أما الطريقة التي أعتمدها أستاذنا علي أحمد سعد فكانت على نمط حديث، وتبدأ بتهجي الحروف ضما وفتحا وكسرا، وتعليم القراءة والخط والإملاء، ثم تزداد المواد كلما تقدم الطالب في دراسته، حتى تصل في شمولها بعض الأنشطة مثل الرياضة، والرسم، وبعض المهارات الفنية الأخرى مثل النحت، وتشكيل نماذج لبيوت من ورق الكرتون، أو لب القصب أو غيره..

كان هذا الاستاذ إجمالا مثقفا ومعلما ممتازاً وصارماً ومهتماً، وفي نفس الوقت كان أيضا قاسيا في تعامله معنا لمجرد أدنى تقصير أو إهمال، أو تأخير عن الحضور في موعد الطابور الصباحي.

ابتدأت مدرسة الوحدة بهذا الأستاذ وحيدا، وبمسجد قروي متواضع، يسمى “مسجد عبدالولي” نسبة إلى “عبد الولي” وهو أحد الأولياء الصالحين، وقبره لازال لافتا وبارزا في وسط المسجد. وتوجد حُجرة في جوار المسجد تسمى “الشمسرة”، وتم بناء غرفة للإدارة جوارها، وبناء ثلاثة أو أربعة فصول أخرى من تبرعات المواطنين من أبناء المنطقة، وجاء بناء بعض تلك الفصول على طرف مقبرة قديمة لا نعرف إلى أي زمن تعود.. بدأ البناء فيها عندما غلبت فتوى جواز البناء على فتوى منع البناء، وصارت المقبرة فناء للمدرسة..

درسنا وتناوبنا الأمكنة في البداية بين سطح المسجد وداخله، وتحت شجرة السدر أمام المسجد، وربما أيضا في حجرة كان يطلق عليها اسم “الشمسرة” وكانت مُلاصقة للمسجد..

مدرسة الوحدة هي مدرستي الأولى التي درست بها إلى الصف الرابع ابتدائي، وربما قليلا من مستهل الصف الخامس ابتدائي قبل أن أغادرها إلى دراسة الصف الخامس في مدرسة أخرى تابعة للشطر الجنوبي من الوطن في منطقة “شعب” التابعة لمركز طور الباحة..

اطلاق اسم “الوحدة” على المدرسة بالنسبة لي كان جاذبا، وكنت سعيدا ومعتزا به، حتى بعد أن أكملت دراستي الجامعية، لاسيما عندما أتحدث عن دراستي الأولى، ولعل هذا الاسم ومضمونة كان جزء أصيلا منّا، ومعبرا عن عمق ذاتنا وانتمائنا وحنيننا، وأملنا الجارف لتحقيق الوحدة اليمنية بل والعربية، والتي لطالما حلمنا بها، بل كانت تقف على رأس أحلامنا العريضة والكبيرة حتّى ونحن أطفال..


كانت عصا الخيزران التي على ما يبدو أن (الاستاذ) علي أحمد سعد قد أحضرها معه من الحبشة لعقاب تلاميذه هي الوسيلة الأكثر استخداما في التربية والتعليم من خلال إنزال عقوباته على تلاميذه عند الإهمال أو التقصير أو التأخر عن الطابور..

(الفلكة) واحدة من بين عقوباته الشديدة التي ينزلها على بعض تلاميذه، وهي الجلد أو الضرب على قاع القدمين، وتربو أو تصل أحيانا إلى عدد العشرين، وهي عقوبة قاسية لأطفال مثلنا، حد ظننت في بعض الأحيان وأنا أعيشها إنها أميل للانتقام منها إلى العقوبة، وربما ظننتُ تحت وطأتها ومن موقعي كتلميذ أن الأستاذ يستلذ بتلك القسوة، فيما الاستاذ ومن موقعه له تبريراته لمثل تلك العقوبة التي ينزلها علينا، لعل أهمها أنها تعود بالنفع والفائدة لنا، وحملنا على عدم الإهمال والتراخي في التعلُّم.
من أجل تنفيذ عقوبة الفلكة بحق تلميذ مقصّر كان يحتاج إلى أربعة من أقرانه من ذوي الأجسام الغليظة لمساعدته في تنفيذ عقوبته، يمدونه على الأرض ويمسك اثنين منهم بيديه وصدره ومثلهم يرفعون قدميه ويمنعونه من الحركة، ليتولى الأستاذ الضرب بالخيزران بقوة على قاع القدمين المضمومتين أمامه أو بمحاذاته..

البرلماني “حاشد”: رئيس مجلس النواب “الراعي” يصفني بـ”الحمار” و “وحيد القرن”

ومن عقوباته الشائعة التي يكثر استخدامها الضرب بالخيزران على بطن الكف، بشكل متوال يصل فيها عدد الجلدات أحيانا إلى عشر لكل كف، وإذا أراد التشديد بعقوبة الضرب على يدي تلميذه أكثر كان يمكنه أن يضربه في ظهر الكفين بالخيزران، وكان الألم أشد وأوجع علينا..

كنّا نجد أنفسنا أحيانا لا نقوى على مد اليد جراء شدّة الألم الناتج عن هذا الضرب.. نحس أن أكفّنا تكاد تنفطر دما، وأحيانا نحس أننا غير قادرين على حملها، وربما أحسسنا أيضا في بعض الأحيان إنها قد شُلّت أو أدركها الشلل..

نشعر بقسوة كبيرة من قبل الأستاذ وهو يستخدمها دون مراعاة لألم لاسع يصل شرره أحيانا إلى الجمجمة.. وفي أيام البرد يشتد ويتضاعف أكثر إحساسنا بالألم، حتى وإن تم إنقاص عدد الضربات بالخيزران حتى لا نطفح أو يقتلنا الألم..

ومن عقوباته الجسدية الأقل وطأة، هي إجبار التلميذ على أن يقف على ساق واحدة، أو الضغط على الإذن بثلاث من أصابعه بعد أن يضع حصية تحت إحدى الأصابع ليضغط بها على شحمة الإذن، بينما يضغط بالأصبعين الآخرتين على الجهة المقابلة ليزيد من حدة الألم الواقع علينا..

هذه القسوة المفرطة في العقاب لم تكن تلاقي تحفظا أو اعتراضا من أولياء أمورنا، بل وتجد تأييدا منهم، وربما يُسعد بعضهم بما يفعله الأستاذ بأبنائهم حيث يرون في تلك العقوبات إنها تصب في صالح ومصلحة أبنائهم، أو هي ضد التقصير والإهمال من قبلنا للتعليم.

يتبع

  • كاتب وبرلماني من #اليمن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى