“آخر الممانعين”.. تفاصيل مهمة عن الرئيس اليمني الأخير
ماجد زايد*
هذا المقال ليس بغرض التباكي، هو صياغة منصفة، بطريقة منطقية، هدفها مراجعة ما حدث..
بعد منتصف ليل السادس والعشرين من مارس 2015 شنت مقاتلات التحالف العربي غاراتها الجوية على صنعاء ومحافظات يمنية أخرى، معلنةً على لسان سفيرها في واشنطن بدء حربها وحصارها واستهدافاتها المدروسة للانقلاب السلطوي على الرئيس هادي وحكومته، كان الهجوم يومها مخيفا وكبيرا، ولا يمكن تصديقه، كانت ليلة لا يمكن نسيانها على الإطلاق، في ذلك المساء الصادم، وبعد عشر دقائق فقط من بدء الهجوم والعاصفة، غادر علي عبدالله صالح منزله في الحي السياسي بصورة مستعجلة خوفًا من الاستهداف، بعدها بقليل استهدفت المقاتلات الحربية منزله بغاراتها، لم يكن يتصور الرئيس اليمني السابق أن يصل بهم المطاف لإعلان الحرب المفتوحة واستهداف البيوت، لكنه أدرك الغرض والمتغيرات، وتفاعل معها وفقًا لأصالته ومعاييره ويمنيته الصادقة..
رئيس اضطراري..
اندلعت حرب اليمن، وانهارت منظومة الدفاعات اليمنية سريعًا، وتسارعت المستجدات لتنتج وضعًا مجهولًا وبلا ملامح واضحة، كانت أياما ساد فيها الظلام، وتوسع منها الهروب، وغادر الناس بيوتهم ومدنهم، ولجأوا للقرى والجبال، وصارت المدن خاوية إلا من النيران والصواريخ المنهالة عليها صباح مساء، ومعها ظهرت الكثير من الخطابات والقيادات والمتقولين ليتحدثوا إلى اليمنيين، منهم الصامدون، والمحللون، والمتحدون، والمنتقمون، والآخرون، جميعهم خاطبوا المواطنين وتحدثوا إليهم، ولكن ومع تسارع الأحداث والمستجدات، ظل الناس ينتظرن شيئًا آخر، اليمنيون عن بكرة أبيهم، داخليًا، وخارجيًا، مؤيدين ومعارضين، سياسيين وإعلاميين، وفاعلين إقليميين، جميعهم ذهبوا ينتظرون ماذا سيقوله علي عبدالله صالح، الرجل الوحيد، والرئيس الحقيقي للبلد، كأنه لم يترك السلطة ويسلمها لرئيس آخر، كأنه المستهدف من كل ما حدث، في تلك الفترة لم يهتم الرأي العام المحلي والعالمي بالرئيس هادي، ولا بعبدالملك الحـوثي ولم ينتظروا ظهورهما أو خطاباتهما، وحده صالح من ينسف الآخرين إذا حظر أو ظهر، هذه حقيقة، فحينما بدأت الحرب والطيران والقصف عاد اليمنيون ليبحثوا عن رئيسهم السابق، في زحمة المتقولين والمتحدثين، ليخبرهم بما يجري، وماذا سيكون وما هذه الكارثة، ما زلت أتذكر تلك الليلة جيدًا، حينما أعلنت قناة اليمن اليوم عن خطاب طارئ إلى الشعب اليمني يلقيه علي عبدالله صالح، لم يكن لدى الناس كهرباء وشاشات مضيئة ليشاهدوه، كانوا يعيشون في ظلام الحرب والشائعات، والخوف المجهول، احتشد المواطنون في حاراتهم وأزقتهم، مع أجهزة الراديو التي تعمل بالبطاريات، بدأ الخطاب، وعم الصمت، وغادر الطيران ليستمع لسيادة الرئيس، وسكتت فوهات المضادات الجوية أيضًا، كان العالم برمته يستمع لخطاب الزعيم بعد أن ملوا لعدة أيام من خطابات الصامدين والمحللين، يومها قال بأن الحرب على اليمن ظالمة وذرائعها واهية، وبأن لها أهدافها الأخرى، أهدافا تمثلت في حاجة وزير الدفاع السعودي، محمد بن سلمان، إلى إنجاز كبير ليصبح ولياً للعهد، كان صالح يدرك جيدًا أن وراء الحرب قضية سعودية داخلية جعلوها مبررًا رئيسيًا لإعلان الحرب، نافيًا في كلمته يومها تواصله بإيران أو تحريكه للحوثيين، مؤكدًا أحقية اليمنيين في الدفاع عن أنفسهم، أمام آلات القصف والدمار. في ذلك الخطاب، طالب بوقف كافة الأعمال العسكرية من قبل قوات التحالف وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ومن يتحالف معهم، مع وقف العمليات العسكرية فورًا من قبل جماعه أنصار الله وقوات هادي وتنظيم القاعدة، مع وقف عمليات السيطرة والنهب لمؤسسات الدولة والمعسكرات في جميع المحافظات اليمنية ومن كل الأطراف.
الشخصية القيادية للرئيس السابق علي عبدالله صالح مثلت دورًا بالغ الأهمية في تعاظم دوره بصياغة النظرة العامة لمعظم اليمنيين تجاه الحرب والمستجدات، ومنها استمد صالح شرعيته، كما أعطت انطباعًا كبيرًا لدى اليمنيين بأن حل كارثة الانهيار لن يتم إلاّ من خلاله، هذا الأمر أعطاه أحقية اتخاذ كافة الخيارات اللازمة في هذه الفترة المصيرية..
خطاب صالح بعد قرار الحرب على اليمن كان عقلانيًا وهادئًا ومعبرًا عن حرصه على ضرورة إنهاء الحرب والحفاظ على الدولة، لكنهم -أي التحالف- ذهبوا بعده يقصفون منازله ومنازل أقربائه في صنعاء والحديدة سنحان، غير آبهين به وبدعواته وبحرصه على الوقوف في جانب الحل والحوار لا الحرب والدمار، دول التحالف بقيادة السعودية أرغمته على الدفاع عن نفسه أمام آلاتها الحربية والإعلامية، ومعها لم يراعوا أحدًا عدا خيارات غرورهم وتجبرهم وكبريائهم المبالغ فيه، وهنا ذهب صالح مجبرًا لوضع يده بيد الحـوثيين لغرض الحفاظ على ما تبقى من كيان الدولة ومكتسباتها الوطنية، كان يهدف للوصول إلى شراكة وطنية اضطرارية تمنع البلاد من الانهيار، مراهنًا على الحل السياسي الشامل، مع ضرورة البقاء مع الناس في ذات الوطن.. ولكن وبعكس التوقعات، كان انتقام الخوف والعداء المتواري في النفوس محفورًا في رؤوس قادة الحوثيين، بعد أن اتكأ عليهم صالح لإعادة صياغة الواقع اليمني، ولمواجهة الحرب الشرسة، محاولًا في ذات الوقت ترويضهم والوصول معهم لخيارات جامعة أكبر بكثير من السلطة والنفوذ، لكنهم غدروه وقتلوه وحققوا بذلك أحلام الدول المتحالفة عليهم وعليه، تحالف الضدين بين صالح والحوثيين كان ردة فعل نتيجة استهداف المؤتمر وكوادره، هذا من جهة ومن جهة أخرى عملية ترويض اضطراري وسياسي لسلطة الواقع على أمل الحفاظ على ما تبقى من الدولة، لكنهم -أي الحوثيين- تكالبوا على حليفهم وبيتوا نيّة التخلص منه، وأقصوا كوادره، وأعدوا عدتهم وانتهزوا فرصة التحرش والهجوم، ليجد نفسه بين سندانهم ومطرقة التحالف، لكنه لم يلق بنفسه لعدو بعيد مقابل عدو قريب، واجههم بنفسه ورأسه، لتتغير المعادلة وتنتج عنها توافق بين هدفين، أحدهما للحـوثي، وآخر للتحالف العربي، وهكذا خاض الرجل حربًا أستشهد فيها، مقاتلًا لا مهادناً..
كرسي الموت..
لا يحكم حِمْيَر إلاّ من صبر على مثل لدغ الأفاعي والعقارب. هذه من وصايا حاكم دولة حِمْيَر اليمنية القديمة الملك التبعي “أبي كرب أسعد” أو أسعد الكامل لابنه حسان في القرن الخامس الميلادي. وبهذا نتذكر البدايات، علي عبدالله صالح جاء إلى السلطة بعد ثلاثة رؤساء مقتولين، اثنان منهم في الشمال (إبراهيم الحمدي وأحمد الغشمي) والثالث في الجنوب (سالم ربيع علي). يومها توقعت الصحف الغربية أن الرجل لن يستمر في الحكم لأكثر من أسابيع، إلا أنه حكم أكثر من ثلاثين عامًا، واستمر في العمل السياسي حتى غادر الحياة. بعد ثلاثة أشهر من حكمه للجمهورية العربية اليمنية، تعرض لمحاولة انقلاب فاشلة، وبعد أشهر أخرى، خاض حربًا مع جنوب اليمن حتى مطلع الثمانينات، وانتهت بحوار وطني بين الطرفين مهّد لفترة من الاستقرار الأطول، بعدها خاض حرب الانفصال، الحرب التي لم تهدأ تبعاتها حتى مطلع الألفين، لكنه وبعد ست سنوات فقط من آخر حروبه، ظهر أمام دول الخليج كنظام سياسي وعسكري قوي جدًا، بعد ست سنوات من آخر حروبه كان يجلس بجوار ملوك الدول النفطية ليشاهد عرضًا عسكريًا مهيبًا وصادمًا وغير متوقع، كان منتصرًا متباهيًا بدولته وإنجازاته.
صالح ومع كل التعقيدات السياسية الحاصلة في فترته، الاّ أنه لم يتنازل عن سيادة البلد، وندية الملوك والزعماء، في حادثة كول بمحافظة عدن نشر الأمن القومي بزي مدني وقوات الأمن بزي عسكري قبل وصول القوات الأمريكية، في محاولة لتفادي حدوث أي تماد أمريكي، وحينما وصلوا أدخلهم فندقا وأحاط بهم وحرسهم بنفسه، في تلك الفترة أدار التحقيقات والعمليات الأمنية، ولم يسمح لأمريكي واحد بالتجول بحريته، بعدها لم يسلم أي يمني للتحقيق معه، كان يحقق معهم بأجهزته، ويعطي معلومات التحقيق للفريق الأمريكي، في ندية لا تحدث في دول كبرى، يومها أنهى التحقيقات وحسم القضية وأعلن أسماء المتهمين، وأرغم الأمريكيين على الاعتراف بنتيجة التحقيقات والاتهامات، حاسمًا القضية، وفي حادثة أخرى بالسفارة البريطانية بصنعاء، بعد انفجار داخلي بمكتبهم في صنعاء، قرروا تنفيذ تحقيق مستقل بالحادثة، ولم يسمحوا لفريق التحقيق اليمني بالدخول، لتقوم الأجهزة اليمنية بناءً على توجيهات الرئيس صالح بالإعلان عن شرت كهربائي داخل السفارة نتج عنه انفجار داخلي، وهذا أزعج البريطانيين جدًا، ليرد عليهم صالح ببرقية دبلوماسية قائلًا، أنتم منعتم فريق التحقيق اليمني، ونحن أعلنا النتيجة بطريقة أسرع!
صالح أفرج عن الشيخ محمد علي المؤيد ومرافقه محمد زايد المعتقلين في سجن بولاية كلورادو منذ العام 2001م بتهم الإرهاب، يومها أخرجهما بنفسه بعد ثماني سنوات من الاعتقال، عبر السفارة اليمنية في واشنطن، وفي حوادث أخرى منع تسليم عبدالمجيد الزنداني المتهم بالإرهاب، بل وأظهره بجانبه في أكثر من مناسبة سياسية، وفي العام 2008 حتى نهاية سنوات حكمه رفض تسليم نجل رجل الأعمال الكبير شاهر عبدالحق لبريطانيا، ولمنظمات دولية تطالب بتسليمه على خلفية قتل فتاة نرويجية في لندن، وأيضًا رفض تنفيذ حكم الإعدام بحق القاضي عزي حميد عمر المسجون بتهمة تسريب رواية اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي..
قائد بسيط..
علي عبد الله صالح يشبه اليمنيين بكل بساطتهم وعاداتهم وملامحهم وتناقضاتهم وتطلعاتهم، أتى للرئاسة من أنقى شرائح المجتمع اليمني، من طبقة الفلاحين، هذا بحسب البردوني، صالح مارس حياته ببساطة وتلقائية يمنية مألوفة، يحكي عنه أحد مرافقيه أنه في أحد الأيام زار بشكل مفاجئ منزل رجل عجوز في منطقة حريب بمأرب، وحينما وصل سلم عليه وقبّل يده ثم سأله هل عرفتني؟ قال نعم أنت الرئيس. ثم رد عليه، “أنا جئتك قبل أربعين سنة وعادني عريف أنا واثنين من الزملاء، وأكرمتنا وذبحت لنا من دجاجك وما تركتنا نمشي إلا اليوم الثاني بعد الغداء”، بعدها أمر الرئيس بترميم منزله وقدم له مساعدة مالية ووجه بتوظيف أبنائه، وفي يوم آخر من عام آخر في محافظة تعز، زاره إلى منزله صحفي تونسي يعمل بمؤسسة الجزيرة الإعلامية، يقول: استقبلنا الرئيس اليمني في نهار رمضان مبتسمًا، بجنبيته وعصابة رأسه، وأدخلنا لمجلسه، لنظل نتحدث معه حتى أذن المغرب، ليقوم الرئيس بخدمتنا بنفسه، قدم لنا التمر والعصير، ثم قام ليؤمنا في صلاة المغرب، ليصلي الجميع وراءه إلا المخرج العراقي عماد بهجت، وهو مسيحي، انتهت الصلاة ثم التفت نحونا صالح وسأل بشكل مفاجئ: أخ عماد أنت سني أم شيعي؟ ابتسم عماد وقال «والله ي سيدي الرئيس أنا لا هذا ولا ذاك»… لأتطوع أنا بالقول: أخونا عماد مسيحي. ضحك الرئيس وقال: ممتاز لتبق كما أنت… بلا سنة، بلا شيعة، بلا وجع رأس! لنقوم لتناول الطعام، وعلى المائدة كان هناك ما لذ وطاب وكان الرئيس مرة أخرى هو من يخدمنا بنفسه، يقطع اللحم بيديه ويقدم لنا أطيبه، ويلح علينا في التذوق من كل الأطباق، بعد العشاء قام ليصب لنا شاي بيديه، كان يعطينا كؤوسًا فارغة بينما هو واقف ليصب لنا فيها من أبريق الشاي، كان إنسانًا عاديًا لا يمكننا وصفه بأكثر من هذا، بعدها أجرينا المقابلة وهممنا للمغادرة، ليودعنا حتى باب المنزل ويسلم علينا جميعًا، وفي الأخير ابتسم نحو عماد بهجت وقال له ضاحكًا: «لا تنس يا عماد، مثلما أوصيتك، لا سنة ولا شيعة، ولا وجع راس..
البقاء في الوطن
الهروب من الوطن ليس نضالًا، هو مجرد نجاة بالنفس من مخاطر السياسة والتقلبات السياسية، هذه قناعة صالح في سنوات الحرب عليه، خصوصًا في ردوده على من يطالبونه بمغادرة البلد، لطالما قال في خطاباته بأن الهروب دافعه شخصي في المقام الأول، المنهزمون وحدهم من غادروا، ووحدهم من انهزموا وتحملوا عبء معاناة النجاة بأنفسهم وعيالهم، الهزيمة هنا شخصية أكثر من كونها وطنية، ومحصورة بذات الشخص وأسرته ومستقبل أبنائه.. بالمقابل، هناك من بقي وواجه مصيره واختار حياته في مدينته رغم كل شيء، لم يغادر ولم يصمت ولم يتراجع مع الأيام والتقلبات، هؤلاء أرقى المناضلين والصادقين والمرتبطين بقضايا شعبهم ومجتمعهم، لم يختاروا ذواتهم وأبناءهم، ولم يفضلوا النجاة بأنفسهم من مغبة ما صنعه المنتصرون عليهم، النضال لا يأتي من الخارج، والكفاح ضد الاستبداد والظلم والطغيان ينبثق دائمًا من رحم الواقع ومجتمع المضطهدين، وما سوى هذا مغالاة في التنميق الكاذب للذات المنهزمة، وتكريس برجماتي مبتذل لطموحاتهم المستقبلية..!
صالح رفض دومًا مغادرة الوطن، ولم يكرر في خطاباته شيئًا أكثر من بقائه في للوطن، لأجل النضال السياسي الحقيقي من وسط الشعب، من الداخل، من بين الناس، بجراءة وحماسة وشجاعة لا تتكرر، بقى وخرجت في طريقه الجماهير المنتظره لمن يتقدمها ويتصدر مواقفها، الناس يعرفون ذلك ويثقون به جدًا، أما الذين غادروا للنجاة بأنفسهم من عاقبة الانهزام، هل تعرفون واحدًا منهم؟ كلا، لقد طمسهم الناس من خيالاتهم وعقولهم وذاكرتهم، لم يعودوا سوى جبناء فروا للنجاة بحياتهم مما صنعته أيديهم بكامل الشعب والوطن.. النضال يعني الداخل، هذا ما قاله صالح ولا شيء غير الداخل، والصراخ من الخارج لا يعني شيئًا أكثر من الوهم والانتقام.
لغة صالح السياسية..
في أحد خطابات صالح من العام 2017 خلال فترة الحرب، تحدث صالح إلى الجماهير اليمنية عن السياسة والحرب بلغتيهما المعروفة، لغة السياسة مع مسميات الحرب المعروفة، وهكذا ظل صالح دائمًا، يتكلم الرجل بمفردات سياسية فقط رغم سوداوية اللغة أحيانًا وبشاعة المفردات التوصيفية الاّ انه رغم ذلك لم يتجاوزها الى حديث الطائفية والمذهبية والعقائد، حديث التدافع الملموس هو ما يجب أن يكون في عالم الماديات البشرية، لم يذهب صالح بعيدًا كما صنع الآخرون، لم يكن يُكفر أحدا أو يُمذهب التدافع والاقتتال، لم يُبرر الحرب بالدين والعقائد، لم يجلب ابن عبدالوهاب وابن تيمية كما فعلوا في توصيفهم له بالرسّي والمجوسي والشيعي، لم يكن صالح يتحدث عن الأصولية الدينية القذرة، كان يغيضهم كثيرًا بلغة سياسية حربية بحتة دون نتانة عقائدية، كان يتحدث عن السلام والتفاوض دائمًا وقابليته للسلام والحوار معهم، كان يتحدث عن آل سعود بصفتهم “العدو الحقيقي” وكيف يصنعون بأشلائنا المقاتلة في صفهم، متحسرًا عليهم ومما يرتكبونه باليمنيين، كان دائمًا يتحدث بشموخ اليمني مقابل السعودي والخليجي، بشموخ الند للند لا سواه، وهو ما يجب أن لا نتركه معهم بالمقابل، كما يجب أن لا ننسى مع كل ذلك عبارته الدائمة: حُرمت عليهم هذه الأرض مادمنا أحياء.
الإخوان المسلمون، ونظام صالح..
منذ السبعينيات، وحتى سقوط الدولة، وحركة الإخوان المسلمين -فرع اليمن- مستحوذة على جزء كبير من الدولة، وواجهة فعلية ومكتملة عن المعارضة وشارعها العام، كانت بوجهين متناقضين يخدم كلاهما الآخر، التجمع اليمني للإصلاح في معظم فترات الجمهورية الأولى كان يمثل دولة الظل المسيطرة على مجريات الأمور وبُعدها المتواري خلف مسميات المعارضة، الإصلاح بشكله القبلي، والعسكري، والديني، والسياسي، والأمني، والمخابراتي، والإعلامي، والصحافة المقروءة، وشتى مظاهر النفعية السياسية، كانوا دولة في ظل دولة، ومعها يسيطرون على تفاصيل المجتمع، ويغذونه فكريًا بطريقتهم الملائمة والمنسجمة مع أفكارهم المستوردة، كانوا موجودين في عمق القرى البعيدة والمترامية، وعلى امتداد الطرق والروابط المدنية، وفي كل الجغرافيا الوعرة والمتصحرة، وفي معظم الأماكن اليمنية، كانوا في الشمال هم الفكر الحصري للمجتمع، وفي الجنوب شكلوا الوريث الفعلي لتركة الفكر الاشتراكي، وهناك سيطروا، وكفروا، وانتشروا، واشتروا، وباعوا، وأخوّنوا الحياة والمدارس والمساجد والمعاهد والجامعات، كانوا فكرًا يعيش بكل معاني الحرية المسموحة من سلطة الدولة التي يحكمونها ويعارضونها، ومنها كانوا يمثلون الجزء الأهم والأكثر تأثيرًا، وأمامها صنعوا وشكلوا معارضتها الرئيسية، المعارضة التي كانوا يحركون شارعها متى شاؤوا، كورقة تهديدية يقدمونها ويؤخرونها لمصلحتهم، وفي الحقيقة، كان كل شيء كروتًا نفعية لعقلية مخابراتية تدير تنظيمًا أخطر بكثير مما يظنه الآخرون..!!
جهاز الأمن العام بشكله الراديكالي كان جهازهم، وألوية الجيش اليمني بشكلها السبعيني كان جيشهم، وضباطه الكبار كانوا ضباطهم، والأمن السياسي بشكله الذي اغتال وعذب الناصريين كان أمنهم، ومؤسسة القضاء كانت مؤسستهم، والمجلس الأعلى للتعليم كان مجلسهم، ومعظم تفاصيل الظل كانت دولتهم..! كانوا هم من انتصر في جبهة الحرب الاشتراكية، وهم من انتصر في الحرب على المناطق الجنوبية، وكانوا هم من يقاتل الحـوثيين في حروب صعدة الستة، ولو من تحت الطاولة.. هذه الحروب التي خاضوها بمسمى الدولة كانت وفق اتفاقات ومكافآت أدت لتوسع نفوذهم داخل مفاصل الدولة، فانتصارهم في جبهة الحرب على الشيوعيين أعطاهم مقاعد الكلية الحربية، ومن ثم مناصب عليا في الجيش اليمني كألوية وضباط، وانتصارهم في حرب الانفصال مكنهم من الوصول للمعهد الأعلى للقضاء ومناصب في وزارة العدل والمحاكم اليمنية..
وأمام هذا كله، كان علي عبدالله صالح يعيّ جيدًا تمكنهم ومدى سيطرتهم على الدولة ومؤسساتها، ومقابله، حاول عبر ثلاثة عقود للحيلولة دون سيطرتهم أكثر وأكثر على دولة يدعون فيها أنهم مجرد معارضين، ولأجل هذا أنشأ الأمن المركزي، كجهاز يتبع الدولة المركزية، للحيلولة دون استحواذهم على جهاز الأمن العام والقضاء، وأنشأ الأمن القومي للحيلولة دون استحواذهم على الأمن السياسي، وأقام الحرس الجمهوري للحيلولة دون سيطرتهم على ألوية الجيش اليمني، وهكذا عمل صالح منذ عام 2000 للحيلولة دون تمكنهم من الدولة فعليًا، وهو ما أظهر الخلاف بينهم، وجعله أكثر وضوحًا في عام 2006، في تلك الانتخابات التي أظهر فيها الإصلاح قوته الحقيقية أمام رئيس الدولة، يومها كانوا يمارسون الترويج الانتخابي بطريقة أكبر بكثير من رئيس الدولة، كانوا كأنهم الحاكم الفعلي للمؤسسات، في مواجهة أجهزة صالح المترنحة والمتقدمة عليهم بفعل الإعلام المرئي لا غير، بعدها تلاحقت الأمور والشكوك والمخاوف والأحداث بينهما، ومعها لم يغفر الإصلاح بأشكاله المتنوعة، القبلية، والعسكرية، والدينية، والسياسية، والمخابراتية، للرئيس صالح ممارساته تجاههم، الممارسات التي حالت بينهم وبين سلطتهم العميقة في عمق الدولة، وهنا بدأت حرب صعدة، لتكون بمجريات مختلفة في تفاصيلها عن حرب الجبهة وحرب الانفصال.. في فترة الحروب الستة بصعدة، كان الإصلاح يراوغ صالح، وكان صالح يراوغ الإصلاح ويحاول إنهاكهم في حرب بعيدة مع نقيض مذهبي لمذهبهم السني، هذا الخلاف والتعقيد بينهما جر الدولة بشكلها الإصلاحي، وشكلها الصالحي لصراع بارد وشديد، أفرز الكثير من الشقوق والهشاشة في عمق الدولة مما أحدث إرادة المواجهة، لتحدث المفاجأة القاصمة لظهر البعير المترنح والمتمثل بالنظام العام للدولة، المفاجأة غير المتوقعة من الطرفين..!
في ذروة الصراع البارد بين النظامين المسيطرين، جاء القرار الدولي لتنظيم الإخوان المسلمين الإقليمي، معلنًا الثورات العربية والربيع العربي، ومعه لم يراع التجمع اليمني للإصلاح نفوذه داخل الدولة اليمنية، واعتقد لوهلة عابرة أنها فرصته الذهبية للانقضاض على نظام صالح المهدد لوجودهم، وهنا أعلن الإخوان المسلمون فرع اليمن ثورتهم على نظام الرئيس علي عبدالله صالح، واستخدموا كل قوتهم لإسقاطه والسيطرة عليه، كانوا مجرد تابعين لقرار دولي بعيد كليًا عن معطيات الشأن اليمني المعقد، ومجرد مفتونين بما حدث في تونس ومصر وسوريا، أغرتهم انتصاراتهم هناك، وتحت تأثير النشوة والافتتان أعلنوا الثورة والجهاد على الدولة التي كانوا لا يزالون يحكمونها ويعارضونها بمطلق الحرية والانتشار، كان هذا القرار أسوأ قرار اتبعوه وساروا خلفه وخلف تخيلاته وتوقعاته، وبالفعل تحققت أمنياتهم، وذهبوا يحكمون الدولة، لكنهم لم يكونوا على قدر عالٍ من مسئولية الدولة التي هيكلوها، وأنهكوها، وأسقطوها في أول هزة يتعرضون لها، ومن يومها وحتى اليوم، سقط كل شيء وذهبت الدولة، وذهب الإخوان المسلمون لمزبلة الأطماع والتبعية، ولحقهم المتأخونون خلفهم، في كل الأقطار العربية، وها نحن ذا نجني عاقبة النشوة والافتتان والانقضاض على الدولة بلا عقلانية أو مراعاة للمعطيات والتعقيدات..
صالح.. خطاب الوداع
بمثل هذا المساء، تمامًا قبل أربع سنوات، كان الموت يحيط بـعلي عبدالله صالح من كل الجهات، يومها قرر تسجيل آخر خطاباته، خطاب للتاريخ والأجيال قال في نهايته شيئًا مهمًا.. قال للشعب: أيها اليمنيين تذكروا هذا، لم أكن عميلًا لأحد، لا للخارج ولا للداخل، كنت عميلًا للشعب والوطن فقط..
كان أكثر من مجرد خطاب أخير لرجل يعيش لحظاته الأخيره، وسط حصار وقصف وقطع لكل أوجه التواصلات، في خضم هذه المجريات المخيفة والمشحونة قرر صالح ارتجال خطاب الوداع بكل تماسك وشجاعة وثبات أسطوري، يومها لم يكن يرتبك أو يتردد من دوي الانفجارات والهاونات، في تلك اللحظات الأخيرة، أراد أن يوصل رسالته الأخيرة، بعقلانية ومسئولية، بوطنية وغيرة ومصداقية، هذا لم يحدث بالإطلاق، أن يخاطب الرئيس المحاصر شعبه في لحظاته الأخوف، وأوقاته المهزوزة، بعد أيام من الحرب والحصار، وعدم النوم، هذا الاستثناء الخرافي لا يمكن تصوره الاّ من رجل قوي وعظيم، في ذلك الخطاب قام صالح بمصارحة اليمنيين بكل شيء، وبكل شفافية وصدق، بعد ان تأكد بخذلان الجميع، مؤكدًا لنا بأن الحلول لن تأتي من الخارج أبدًا، وأن الحرب الخارجية ظالمة وإجرامية، ومثلها الخرب الداخلية والفساد والتجيير المذهبي للدولة، كان متمسكًا بمبدأ الشراكة، والديمقراطية، والحوار بين اليمنيين، لم يعترف بشرعية العدوان الخارجي على اليمن وهو يواجه الموت، ولا بشرعية السلطة المنقلبة في صنعاء أو المستمدة من الخارج، فلا شرعية للمليشيا الحاكمة والمغتصبة للسلطة، والعابثة بقوت الناس ومقدراتهم، ولا بشرعية الارتماء في حضن الخارج والممولين..
بحسب منى صفوان -الصحفية اليمنية- كان علي عبدالله صالح بخطابه الأخير في لحظة صدق نادرة، كان يؤكد عدم عمالته للخارج، مؤكدًا رفضه للعدوان على اليمن من قبل التحالف العربي، هذا العدوان وإن كان سببه الحوثيون، الّا أنه يجب أن يتوقف حالًا ليبدأ الحوار الشامل بين اليمنيين، كان يومها صادقًا في محاولته الأخيرة لإعادة الأمور الى نصابها، بعد أن تأكد له أن الجمهورية تآكلت وتمزقت وذهبت كمشاريع صغيرة، كانت محاولة أخيرة لتصحيح الخطأ، فإن كان قد حارب الحوثيين، لكنه لم يحاربهم إرضاءً للسعودية “كما تم اتهامه من قبل الحوثيين”، وإنما ارضاء لليمن ولمصلحة الشعب، بعد أن تجبر الحوثيون بفسادهم وتعاليهم على مآسي الناس لهذا قال: ”لم اكن عميلًا لأي دولة شقيقة، لقد كنت عميلًا وخادمًا لهذا الشعب” ولم يكن مجبرًا على توضيح هذه الفكرة، الّا وهو يصر ان ينفي عن نفسه تهمة العمالة، ويوجه رسالة واضحة بهذا الشأن لمن يعتقد ان الخارج يمكنه أن ينقذه.
صالح في خطاب الوداع لم يوجه أي لوّم للشعب، أو يتهم الآخرين بخذلانه، لقد كان مقتنعًا بأنه يواجه قدره، علها شجاعة نادرة، لكن هذه هي صورة علي عبد الله صالح الأخيرة. وهذا درس يستحق التأمل ممن يعيشون اليوم دور الزعامة وحياة الرفاه.
ويرغمون فضحهم للممارسات الحوثيين غير الخافية على أحد، علي عبدالله صالح لم يكن عنصريًا تجاه الأسر الهاشمية، وذكرنا بدورهم في قيام الجمهورية وخدمة الوطن، كما برر لمن يبيعون ولاءهم للحوثيين بدافع الحاجة والخوف من الضعفاء والمحتاجين. كان خطابه ذاك أبعد ما يكون عن العنصرية والتحريض والكراهية، وهي من الأمور النادرة في السياق اليمني، لقد كان خطابًا وطنيًا بكل حروفه وكلماته..
علي عبد الله صالح، في خطاب الرحيل كان ثابتًا، يعي كل ما يقول، لم يبد متوترًا أو عصبيًا على غير عادته، كان يرتدي الملابس التي قتل بها، أي أن التسجيل كان قبل ساعات من مقتله، وكأن القدر امهله ليرسل لنا الرسالة الأخيرة رسالة تحدث فيها كسياسي ذي خبرة، في إدارة الدولة والصراعات، وضع لنا وصفة جاهزة لحل الصراع في اليمن، وكأنه يقول إن لم يسعفني القدر لأكون معكم، واصحح الأخطاء التي حدثت، فهذا ما يمكنني أن اقدمه لكم.
يومها تحدث عن ضرورة وقف العدوان والحرب، وبدء حوار شامل، ومن ثم تشكيل مجلس انتقالي، والإشراف على انتخابات رئاسة الجمهورية والمجلس الاستشاري، ومن ثم انتخاب مجلس النواب، وتشكيل الحكومة. وبكل هدوء وتماسك تحدث عن مبادرة تشكل خارطة طريق، يؤكد فيها أن لا مستقبل لليمن الا بالديمقراطية، والمشاركة في الحكم، والحوار، إنها رسالة يمكن ان تكون للحلفاء والخصوم على حد سواء، وهي ايضًا لمن يرث تركته، واسمه وتمثيله السياسي سواء من عائلة الصالح او من حزب المؤتمر الشعبي العام.
لقد كان علي عبد الله صالح طفرة في تاريخ اليمن السياسي، ان خبرة ادارة الصراع، والعمل تحت الضغط، واستمالة الخصوم، او التخلص منهم، وتكوين التحالفات، والانقلاب عليها، تستحق ان تلخص وتدرس لانها جزء من تاريخ اليمن المعاصر.
وهذا الخطاب هو الأهم من كل خطاباته، لأنه الرؤية الأخيرة للرجل الذي شارك وقاد ابرز التحولات في تاريخ اليمن، ابتداء من رئاسة اليمن في بداية نهضتها، والمرور من منعطف التحولات الكبرى بتحقيق الوحدة، وتشكيل الأحزاب، والتحالفات، إلى الحروب في الجنوب وصعدة، ومن ثم التحول الكبير في 2011 بعد تسليمه للسلطة، واخيرا التحول الخطير الذي مكن الحوثيين من السلطة، وإلى آخر سطر في هذا التحول بالانقلاب عليهم، واشعال انتفاضة انتهت بمقتله.
أخيرًا..
الرئيس اليمني السابق، علي عبدالله صالح، بقي في صف الشعب حتى آخر لحظاته، قاتل التحالف، وقاتل الحوثيين، وتعرض قبلها لإقصاء سياسي واستهداف إعلامي من مكائن الإصلاح إبان حكومتهم بعد 2013، وإقصاء آخر من حكومة الحوثيين، كأنه الشعب في كل ما يتعرض له أو يواجهه.. لكنه ذهب وبقيت أصداؤه خالدةً عن كل ذكرياته..
بالمناسبة كل هذه الأسلحة والصواريخ والذخائر التي يتحاربون بها منذ سنوات، كانت بيد علي عبدالله صالح، كان بإمكانه سحقهم بها جميعًا، لكنه لم يفعل، تركها لهم ثم غادر، ويومها قال لهم: لن تتمكنوا من الاحتفاظ بها أو الاحتفال بها، وستتحاربون من طاقة إلى طاقة، وها هم اليوم يتقاتلون من طاقة إلى أخرى!
أعرف، ستقولون إنه السبب، وهو المؤامرة الكبرى! هل تعلمون..؟!
الأعذار في حظرة الشعب لم تعد مجدية، وكل هذا الشعب أصبح اليوم يعرف كل التفاصيل الدقيقة..!
له الخلود..
رئيسنا اليمني الأخير، والوحيد..
* كاتب يمني وناشط سياسي.
3 ديسمبر 2021