الثقافة اليمنية في مواجهة ثقافة الكهنوت الإمامي.. استقراء تاريخي
د. ثابت الاحمدي
المتأملُ في مسيرتنا الثقافية اليمنية من وقت مبكر يجد أنها في صراع دائم مع ثقافة الإمامة الهادوية منذ ورد يحيى الرسي إلى اليمن؛ فما أن شرع بتأسيس ثقافة جديدة لمذهب جديد، غريب الوجه عن تربة اليمن حتى انبرى له الحسن بن أحمد الهمداني، مؤسس الحركة الوطنية في بواكيرها الأولى، واضعا سفره الثقافي والعلمي الكبير “الإكليل” بأجزائه العشرة، إلى جانب المؤلفات الأخرى التي عملت على تأصيل الهوية اليمنية وتثبيتها في وجدان الأمة.
إلى جانب الهمداني وموسوعته التاريخية “الإكليل” كانت الثقافة القرمطية التي تمثل اليسار اليمني المبكر، بقيادة علي بن الفضل الخنفري قد انبرت لدعوة الرسي وبنيه أيضا قبل ذلك، علما أن لهذه الثقافة امتدادا خارجيًا؛ لكن ابن الفضل عمل على يمننتها، خاصة مع طموحه السياسي المعروف عنه. ورغم هزيمة ابن الفضل السياسية والعسكرية لاحقا بعد وفاة يحيى الرسي إلا أن المعركة الثقافية ظلت قائمة، حتى الفترة الصليحية التي تعتبر واحدا من أزهى العصور السياسية في اليمن. وكادت الهادوية بثقافتها الكهنوتية أن تقتصر على صعدة فقط، أو بالأصح على البُيوتات الرسية هناك، في الوقت الذي كانت اليمن تعج بالمذاهب الفكرية والدينية الأخرى من حنفية ومالكية وشافعية، وإباضية وقرمطية، وكان المذهب الإباضي يحتل جزءا كبيرا من صعدة وحجة، قبل أن يستقر في حضرموت لاحقا.
في مطلع القرن السادس الهجري عمل الإمام أحمد بن سليمان على إحياء النظرية الهادوية من جديد، وكانت على مشارف التلاشي، خلال فترة الضعف إبان صراعات أبناء الرسي وأحفاده على الحكم، فارضا إياها بما يمسك من قوة دويلته التي تُعتبر امتدادا لدويلة الرسي، فانبرت المطرفية، وهي الحركة الفلسفية والتنويرية التي سبقت حركة التنوير الأوروبي بقرون، وكادت أن تمثل مدرسة إحيائية لا لليمن فقط؛ ولكن للمنطقة كلها لولا سيفا أحمد بن سليمان وعبدالله بن حمزة لاحقا. ومع هذا فقد ظل أثرُها قائما، مناوئا لثقافة الكهنوت الرسي؛ بل لقد شكل عَلَمٌ واحدٌ من أعلام المدرسة المطرفية وهو نشوان بن سعيد الحميري فنارًا فكريا ومشعلا متوهجا كاد يقضي على ثقافة الكهنوت الرسي خلال تلك الفترة، ولا تزال ثقافة نشوان التجديدية سارية إلى اليوم.
تلا أحمدَ بن سليمان عبدُالله بن حمزة، والذي كاد أن يجعلَ من النظرية الرسيّة دينًا جديدًا، فارضًا تلك الثقافة بما امتلك من قوة الدويلة التي فرضها؛ لكن لتأتي الدولة الرسولية بثقافتها الواسعة ومدارسها المتعددة فتبدد ظلام الثقافة الرسيّة التي انزوت مرة أخرى في صعدة فقط. وقد امتد حكم الدولة الرسولية إلى صعدة نفسها.
وإبان فترة الإمام يحيى بن حمزة المنظر الأكبر، وصاحب التصنيفات العلمية المتعددة في فنون مختلفة، ما كادت تنظيراته تسري في محيطه الاجتماعي حتى انبرت ثقافة تجديدية معتدلة أسسها من محمد بن إبراهيم الوزير 775 هـ ــ 840 هـ، المشتغل الأول بعلم الحديث خلال تلك الفترة، والتف حولها اليمنيون وناصروها، إلى جانب ثقافة الدولة الرسولية التي امتدت حتى وقت لاحق.
وفي العهد القاسمي ومع غُلو المؤسسين الأوائل لها، كالإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم، ثم الفقهاء المتعصبين الذين برزوا بعد ذلك كابن حريوة السماوي في وقت لاحق، تواصلت الثقافة التجديدية على يد كل من: الحسن بن أحمد الجلال وصالح بن مهدي المقبلي وابن الأمير الصنعاني، وكان خاتمة هذه المدرسة الإمام المجدد الكبير محمد بن علي الشوكاني.
كان هؤلاء مصلحين دينيين ومجددين ثقافيين في وقت واحد معا، أعادوا الفكر الديني والثقافة اليمنية إلى مسارهما الصحيح كلما حاولت الإمامة أن تنال منهما.
ونتوقف هنا عند الإمام الشوكاني أبرز مصلح ديني ومجدد ثقافي وفكري معا، والذي كان صاحب نظرة سياسية أيضا..
فقد ألف موسوعته الفقهية “السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار” والذي ابتدأه بكتاب الطهارة وأنهاه بكتاب الجنايات، ردا لكتاب “متن الأزهار في فقه الأئمة الأطهار” لأحمد بن يحيى المرتضى، والكتاب الأخير يعتبره الأئمة منذ القرن الثامن الهجري وحتى اليوم المرجعية الدستورية لهم، فألف الإمام الشوكاني موسوعته الفقهية المذكورة مفندا دعاوى ومسائل المرتضى التي ناقشها ودحضها، ومنها مسألة “الخُمس” التي أبطلها بالأدلة العقلية والنقلية، إلى جانب مسائل أخرى؛ الأمر الذي جعل فقيها جاروديا متعصبا كابن حريوة السماوي يفقد صوابه، محاولا الرد على الإمام الشوكاني في كتابه “الغطمطم الزخار المطهر لحدائق الأزهار من آثار السيل الجرار” ويقصد بحدائق الأزهار هنا كتاب المرتضى، من آثار كتاب الشوكاني “السيل الجرار”، وقد ملأه بأقذع الألفاظ التي لا تليق بإنسان، ناهيك عن شخص يدعي العلم والفضيلة والفقه، وجميعها تنال من الإمام الشوكاني..!
ولم يقتنع ابن حريوة السماوي بذلك، بل هجا الشوكاني بقصيدة شعرية خاصة، وكذلك فعل الشاعر الهبل مع المقبلي من قبل.
وحين كان كتاب “الكشاف” للزمخشري في التفسير هو السائد في عهده، فقد ألف الإمام الشوكاني موسوعته العلمية في التفسير المسماة “فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير” وتعمد الإمام الشوكاني أن يتبع فيه نهج الزمخشري الذي ركز فيه على اللغة من نحو وصرف وبيان، ولكن مصححا بعض المفاهيم التي تتفق مع رأي الجمهور، وشذ فيها الزمخشري، ذو الفكر المعتزليّ. فحلّ كتاب فتح القدير محل كتاب الزمخشري بعد ذلك. علما أن للمقبلي أيضا كتاب بعنوان “الإتحاف في الرد على الكشاف”.
وفيما يتعلق بعلم أصول الفقه كان الكتاب السائد حتى عهد الشوكاني في الأصول هو الكتاب المعروف بـ “كافل الطبري” للقاضي علي بن صلاح الطبري، وهو في أساسه شرح لمتن محمد بن يحيى بهران. وكلاهما فقيهان جاروديان متعصبان. فألف الإمام الشوكاني كتابه المعروف: “إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول”. ومن يومها ساد هذا الكتاب وتسيد على ما عداه من كتب الأصول.
من ناحية ثانية أيضا وخلال تلك الفترة تعمد الأئمة وفقهاؤهم أن يقتصروا في تدويناتهم التاريخية على تاريخ أئمتهم فقط دون غيرهم من اليمنيين، فحيث فتحت أي كتاب من كتبهم لا تكاد تجد إلا الفقيه الفلاني من آل البيت والإمام الفلاني من آل الرسي، وهكذا. فألف الإمام الشوكاني موسوعته التاريخية في علم التراجم: “البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع”. وعدد فيه العلماء والفقهاء من مختلف الطبقات والفئات، من قحطانية وعدنانية، بدون الإشارة إلى سياسته هذه، ولسان حاله: هذا هو اليمن الكبير، وليس من يسمون أنفسهم آل البيت فقط.
وحين كان كهنة الإمامة لا يأخذون من الأحاديث النبوية إلا ما وافق هواهم فقط مما يسمونها أحاديث آل البيت، وأغلبها ــ إن لم تكن كلها ــ مكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألّفَ الإمامُ الشوكاني موسوعته الحديثية “الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة”. حيث فنّد دعاواهم ورد ما يسمونها أحاديث تمجدهم وتُعلي من شأنهم.
هذا هو الإمام الشوكاني شخصية علمية تجديدية، مناوئة للكهانة والزيف المتسربل زورا بالدين.
وفي القرن العشرين، وحين حاول الإمام يحيى، ثم نجله أحمد الإطباق على اليمنيين بثقافة الزيف والكهنوت كعادة آبائهم وأجدادهم انبرى خط ثقافي جديد لم يكن في حسبانهم، من خلال مجلة الحكمة التي أسسها أحمد عبدالوهاب الوريث، ثم فكر وثقافة رجال الأحرار كالشهيد المطاع والزبير ونعمان، وغيرهم الذين أسسوا لفكر وثقافة يمنية إحيائية، لا تزال أصداء هذه المدرسة قائمة حتى اليوم.
وأختم هنا بما قاله البردوني في كتابه قضايا يمنية: “لقد واصلت ثقافتنا مسيرتها في عدة خطوط، بعضها سقطت في هوة ولم تتجاوزها، وبعضها سقطت لكي تستعد للمسير، وبعضها تعرجت، ولكن لكي تصل على بُعد الطريق، وبعضها وضعت أقدامها على أول طريق متين، فمكنها من التواصل بدون انقطاع. وكل هذا يرجع إلى الحياة الاجتماعية، فقد حاول شعبنا تجاوز واقعه، فتعرجت طريقه من جانب، وتفتحت له الهُوّات في بعض الخطوط، وامتدت مسيرته على بعض الجسور. والمهم من كل هذا أن مجتمعنا بتحركه في الحياة وتأثيره في الأدب لم يتوقف، وإن كثرت المتعرجات وتعددت الحُفر، كما لم يتوقف أدبنا، وإن تعثر وتواصل”.
والخلاصة.. إن ثقافتنا الوطنية ثقافة مقاومة، منتصرة عبر التاريخ، ولا تعرف الانهزام أو الاستسلام. تنهزم الجبهات السياسية، وتنكسر الجبهات العسكرية، فيما الجبهات الثقافية قائمة بطبيعتها، ولها أصداؤها ونكهتها الخاصة بها عبر الأزمان. وإن شعبنا اليمني العظيم قادر على الالتفاف خلف قادته المخلصين ومناصرتهم في كل مرحلة من مراحله النضالية. وعلينا اليوم السعي حثيثا لتأهيل الجيل القادم الذي سيكسب جولة النصر، وما هي منه ببعيد. وإن غدًا لناظره قريب.