الطيب يكتب عن | عبدالوهاب نُعمان ورفاقه

بلال الطيب *

كان لسقوط قلعة المقاطرة سبتمبر 1921م، والتنكيل بسكان تلك الناحية أثره البالغ في تنامي ردة فعل الغضب الشعبي تجاه السلطات الإمامية الغاشمة؛ بل أنَّ بعض المشايخ – ممن ساهموا في ذلك السقوط بطريقة مُباشرة أو غير مُباشرة – سيطرت عليهم عقدة الذنب، وبدأوا يفكرون جديًا في استقلال تعز وإب، وخططوا في أواخر فبراير من العام 1923م لاغتيال أمير تعز علي الوزير، إلا أنَّ مُحاولتهم باءت بالفشل بفعل الجواسيس الذين رافقوا تحركاتهم خطوة خطوة.

وقيل أنَّ أحمد بن علي باشا المُتوكل – حاكم تعز السابق – أرسل إلى علي الوزير مُحذرًا بـ «إِنَّ»، وأنَّ الأخير فهم أنّ المغزى قوله تعالى في سورة الحجرات: «إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ»، فاحتاط للأمر، واجتهد في كشف خيوط المؤامرة حتى أخرها، وعن ذلك الباشا قال المُؤرخ المجاهد – ناقل هذه القصة – أنَّه «كان من الحذر إلى الحد الذي يصعب معه أنْ يمسك أحد ما عليه حجة، وأنَّه كان دائمًا يلعب على جميع الحبال، ومحل ثقة كل الأطراف في كل معمعة أو مناورة».

كان الشيخ عبدالوهاب نعمان المُتبني الرئيس لتلك الحركة، وقائدها الفعلي، وقد اتهمته السلطات الإمامية حينها بدعمه لثوار المقاطرة، وبأنَّه استغل تذمر العامة من عملية إسقاطها، فأظهر طموحه السياسي بحكم قضاء الحجرية، وبأنَّه عزز ذلك بعقده اتفاقيات صداقة مع سلاطين الجنوب، وبتواصله المـُستمر مع عدد من مشايخ تعز وإب، لحثهم على التخلص من علي الوزير، وإعلان الاستقلال.

من جهته أكد المناضل قاسم غالب أحمد أنَّ الشيخ عبدالوهاب نعمان، والشيخ حمود عبدالرب، والشيخ عبدالله يحيى الصبري، والشيخ أحمد بن حسن أسسوا حينها أول كيان معارض لحكم الإمامة – أسموه بـ (جمعية المشايخ)، وقال قاسم عنها بأنَّها أول جمعية قالت كلمة الحق، وأنكرت الظلم.

لم يشر الأستاذ أحمد محمد نعمان ورفيق دربه القاضي محمد محمود الزبيري إلى ذلك، وجاء في رسالتهما التي بعثاها – فيما بعد – إلى المناضل عبدالله بن علي الحكيمي: «وقد هربنا نحن إلى مصر خوفًا من صولة الأمير – يقصدان علي الوزير – في ذلك الحين، وعداه الذي نصبه لبني نعمان، رغم إخلاصهم له ولحكومة الإمام، غير أنَّه دخله الحسد عندما كان ينظر ما لهم من مكانة في قلوب الناس، وما هم عليه من رغد العيش، وطيب النعيم، خشي على نفسه أنَّ مكانتهم هذه قد تتحول يومًا إلى قلب الإمام، فيرفعه من تعز، ويودع إليهم إمارة تعز أو بلادهم الحجرية على الأقل، وكيف يمكنه تركها، وقد وجد فيها مرتعًا خصبًا لا يمكنه تركه..».

وفي المقابل هناك من يرى بأنَّ الإمام يحيى هو من زرع الفتنة بين الشيخ عبدالوهاب نعمان، والأمير علي الوزير، ليكسر شوكة الأول، ويضعف شعبية الأخير، وقد وجه فعلاً بالقبض على الشيخ عبدالوهاب قبل مُحاولة الاغتيال الفاشلة؛ والسبب الاتهامات السابق ذكرها، والتي وصلت إليه من قبل جواسيسه في الحجرية، والذين كانوا – أصلًا – من بعض أبنائها.

الرواية الرسمية المُتوكلية لم تُؤكد ذلك أو تنفيه، قالت أنَّ الأمير استبقى الشيخ عبدالوهاب نعمان وعددًا من المشايخ بالقرب منه، ولم يأذن لهم بمغادرة مدينة تعز حتى يدفعوا ما عليهم من مُتأخرات زكوية، وأنَّ الأخيرين حين طالت مدة احتجازهم، خططوا لجريمتهم تلك، وعزموا على اغتيال أمير تعز بعد خروجه من صلاة الجمعة في جامع المـُظفر، وأنَّهم حاولوا لذات الغرض شراء ذمم بعض العسكر، وأنَّه على ألسن هؤلاء افتضح أمرهم.

أمام تلك الاستدلالات الماثلة، صارت الفرصة مواتية لعلي الوزير بأنْ قضي على خصومه بضربة واحدة، وبالمكر والخديعة قبض عليهم جميعًا مارس 1923هـ (رجب 1341هـ)، وكان عامل صبر الشيخ عبدالله يحيى الصبري – حسب رواية حفيده أمين علي الضباب – أول الضحايا؛ كونه من سكان جبل صبر، ومنزله قريب من منطقة دار النصر مقر الأمير.

تمَّ بعد ذلك القبض على الشيخ عبد الوهاب نعمان، والشيخ حمود عبدالرب (عامل العدين)، والشيخ أحمد بن حسن علي باشا (من مشايخ العدين)، وعبدالملك حسن بشر، وعبدالله يحيى عبد الجليل، وبعضًا من إخوانه وأولاده، وعامل جبل رأس الجنيد عبدالله النور، وقد اتهم الأخير بأنَّه صاحب مشورة قتل الأمير بالسم بدلًا من الرصاص، وذكر المحققون أنَّهم وجدوا أداة الجريمة في متاعه.

لحميد العواضي – حفيد الشيخ حمود عبدالرب – رواية مُتصلة، مفادها أنَّ جده عامل العدين حشد حينها الحشود إلى مشارف مدينة تعز، استعدادًا للحظة الحاسمة، لحظة اغتيال الأمير علي الوزير، إلا أنَّ الرياح أتت بما لا تشتهي سفنه، حميد أفاد أيضاً أنَّ جده كان قد تطير شرًا قبل خروجه ذاك، مُستدلًا بمهيد شعبي يؤكد ذلك، جاء نصه:
حمود عبدالرب تحسب واحتسب
وقال يا ناس أنا نحسي رجب

اقتيد المتهمون إلى صنعاء مُكبلين بالأغلال، في رحلة أستمرت ثمانية أيام، لاقوا فيها الكثير من الأهوال، أشنعها تقريع العساكر، وسباب العوام، وفي سمارة اعترض الشيخ محمد صالح قعشة موكبهم المهين، ورفض أن يمروا في بلده وهم على تلك الهيئة، وأقسم على ذلك، واستضافهم في منزله ليوم كامل، وهو أمرٌ أكده أمين علي الضباب نقلًا عن الحاج محمد عبدالغفور الشهير بـ (الغفوري) – جد الكاتب مروان الغفوري – والذي رافق جده في رحلته تلك خطوة خطوة، ويحفظ لنا الموروث التعزي غنائية حزينة صورت ذلك المشهد، جاء فيها:
في ليلة الاثنـين قــد شــدوا سـلاطيـن اليمن
حمـود عبدالرب وبن نعمان وأحمد بن حسن
والرابع الفخري ضرب سيطه إلى بنـدر عـدن

وفي المقابل تبارى شعراء الإمامة في مدح ذئبهم الأسود علي الوزير، وسارع أحدهم بالقول:
مـا زلت تختــلب القــلـوب بفطنة
وقَفَتْ على ســرِّ الغيوب المـُبهمِ
عما نــواه الخارجون عن الهدى
مــن كــل متسـم بـزي المُـــسلمِ
تبًا لـرأي المــارقيـن فـإنـــَّـه
رأي ابن ملجم في الإمام الأعظمِ

وجه الإمام يحيى بعد ذلك بـ «قبض دورهم، والاحتياط بما فيها، ليكون من ذلك تدارك ما في ذممهم من أموال الله»، – حد توصيف المُؤرخ عبدالكريم مطهر – وكتب أحد الأحرار الأوائل – يُرجح أنَّه أحمد محمد نعمان – مقالًا في جريدة (الشباب) المصرية، نقل فيه تفاصيل ذلك الجرم الإمامي، جاء فيه: «ولما فرغ أمير اللواء من القضاء على هؤلاء بعث جنودًا وقوادًا إلى بيوتهم لأخذ جميع ما فيها حتى ملابس الأطفال، وأمر بإخراج نسائهم وأطفالهم مُجردين من كل شيء، وجعل البيوت ثكنات للجند، ونقل كل ما جل وقل، ولم يكتفوا بذلك؛ بل ظلوا ينقرون جدران البيوت ليخرجوا بقية الكنوز، ثم حفروا فناء الدور ولم يتحصلوا على شيء، وبعد هذا بعثوا في طلب من كان يخدم هؤلاء، وقد جاء بهم الجند إلى أمير تعز.. فأمر بتعذيبهم، والإغلاق عليهم بإصطبلات البهائم».

بعد هذه الحادثة كان علي الوزير شديد الحذر والقلق، ويترجم كل حركة وسكنة بحضوره على أنَّها تستهدفه، وبمُبالغة لا تطاق، وعاشت مدينة تعز – تبعاً لذلك – أسوأ أيامها، ودفعت – كما أفاد المُؤرخ المجاهد – ثمنًا باهضًا من استقرارها، أمام عنت العساكر، واستضافتهم الإجبارية في المنازل بغرض إرهاق الأهالي وإرهابهم.

خلف جدران سجن القلعة المـُوحش لقي سلاطين اليمن – كما أفاد عدد من المُؤرخين – حتفهم، تساقطوا فيه الواحد تلو الآخر، ولم ينجو من الموت سوى الشيخ عبدالوهاب نعمان، وذلك لبعض الوقت، أبقاه الإمام يحيى تحت ناظريه، وعينه عاملًا لبني مطر.

وفي رواية مُغايرة لما سبق، أفاد أمين علي الضباب أنَّ الإمام يحيى أطلق سراح جميع المعتقلين، وذلك بعد مرور سنتين من اعتقالهم 1925م، وأنَّ جده الشيخ عبدالله يحيى الصبري فضل البقاء في صنعاء، واستأذن الإمام في أنْ يبتني لنفسه غُرفتين فوق سور غمدان، وأنَّه ظل فيهما حتى وفاته 1931م، أما نبيل نبيل عبدالرب – حفيد الشيخ حمود عبدالرب – فقد أفاد أنَّ جده توفي في السجن، وأنَّ السجانين رفضوا تسليم جثته لذويه.

وبالعودة إلى أخبار الذئب الأسود علي الوزير، فقد صار بعد تخلصه من أولئك المشايخ حاكمًا أوحدًا للواء تعز، بدت طموحاته الاستقلالية تتبدى، وكان فقط ينتظر وفاة الإمام يحيى ليعلن عن ذلك، فضحت وثائق بريطانية استعداداته تلك، وكشفت أنَّه صارحهم برغبته بتدريب وتسليح 1,000 رجل صومالي ليكونوا تحت إمرته، وذلك عند حلول اللحظة المُنتظرة، إلا أنَّ الإنجليز الباحثين حينها عن رضا الإمام رفضوا مقترحه وبشدة.

وعنه قال المُؤرخ إسماعيل الأكوع: «وبقي علي الوزير واليًا على لواء تعز عشرين عامًا، جمع خلال حكمه ثروة طائلة من مصادر شتى، ووجوه مُختلفة، وعاش عيشة الملوك، حتى حسده الإمام يحيى نفسه»، ليقلب له الأخير بعد ذلك ظهر المجن، عزله من منصبه 1938م، وشوه سمعته، ولم يسع ابن الوزير بعد ذلك سوى الرحيل صوب السعودية، ثم ما لبث أنْ عاد من الأخيرة، مقر رحلته المؤقت، ولكنها كانت عودة خافتة، بعيدة عن متعة الحكم، ولِذة الإمارة.

ومن طريف ما يروى أنَّ الشيخ عبدالوهاب نعمان، والأمير علي الوزير التقيا قبل قيام الثورة الدستورية في منزل الأخير، وأنَّ الضيف كان يُحدق بقوة في أثاث المنزل الصنعاني، وتحفه الثمينة والنادرة، الأمر الذي أشعر مضيفه بالحرج؛ لأنَّ معظم تلك الأثاث كانت من منهوبات داره العتيق في تربة ذبحان، وحين اقتيد الاثنان لساحة الإعدام، بعد فشل تلك الثورة، نُقل عن عبدالوهاب نعمان قوله: «لقد هانت على نفسي محنتي، ما دام آل حميد الدين، وآل الوزير قد نكبوا معًا، حتى يريح الله العباد والبلاد منهما».

وهو نفس الشعور، وذات التوجه الذي لازم ابن أخيه الأستاذ أحمد محمد النعمان الذي قال في كتابه (انهيار الرجعية) أنَّ أذكياء الشعب – يقصد بهم رجالات المـُعارضة اليمنية المـُستنيرين – استغلوا التنافس القائم بين أسرة حميد الدين وأسرة الوزير، وسعوا إلى أنْ يضرب الطغيان بعضه ببعض، مثلما يضرب هو الشعب بعضه ببعض.

وقد رثى الشاعر الكبير عبدالله عبدالوهاب نعمان والده قائلًا:
أبي ومـن ذا زكيِّ الأصل مثل أبي
كــأنَّه هــو والأمـــــلاك إخـــــوان
فـــإن يمت فـأكفُ الأنبــــياء له
نعشُّ، وأجنـحة الأمــلاك أكفان

  • كاتب من اليمن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى