لماذا أراد الإماميون حرق رفاته؟! الشوكاني وصرخة الحوثي!!

بلال الطيب *

شهدت الإمامة الزّيدِيّة بعد وفاة المنصور الحسين بن المُتوكل القاسم تغيرًا نوعيًا في مَسارها السياسي، استقرت وراثة في ذرية الأخير، فعمل الأخيرون على نبذ التعصب المذهبي، والتقرب من علماء السنة المُجددين، ليس حبًا فيهم؛ وإنما حفاظًا على عروشهم، مُستفيدين من عدم إجازة هؤلاء للخروج على الحكام.
      
عاشت صنعاء خلال تلك الحقبة حراكًا فكريًا وثقافيًا، برز فيه عدد من العلماء المُجتهدين، كان العلامة محمد بن علي الشوكاني أبرزهم، وكانت لجهود الأخير الجبارة ألأثر الأكبر في تنامي ذلك الحراك. كان قريبًا من الحكام، وساهم إلى حد ما في تهذيب سلوكياتهم، وصناعة أحداث وصفت بالإيجابية، ولم يحدث لها أنْ تكررت خلال تاريخ الإمامة الطويل.

إذا وجد المستشار الأمين، ووجد الحاكم الذي يستمع له، ويعمل بنصيحته، وجدت الدولة العادلة، أو شبه العادلة، وذلك غاية ما تدعوا له الشرائع السماوية، والفطرة الإنسانية المُسالمة، ورغم ماضي الإمامة الزّيدِيّة المـُوغل – باسم الله – في الظلم والتوحش، ثمة مرحلة تاريخية مُختلفة، نحن بصدد تناولها، كان العلامة الشوكاني بطلها، صحيح أنَّه لم يسودها العدل الشامل، إلا أنَّها كانت إلى الملك الدنيوي أقرب، يتحمل وزر مثالبها الحاكم لا خالقه.

ولد العلامة الشوكاني في هجرة شوكان 28 ذو القعدة 1173هـ / 11 يوليو 1760م، وهي قرية من قرى الحامية إحدى قبائل خولان العالية، وينحدر من أسرة تنتمي إلى فئة القضاة، ويتصل نسبه بالشيخ الدعام بن إبراهيم – أحد مُعاصري الإمام يحيى بن الحسين – ولم يقتصر اهتمامه على دراسة العلوم الشرعية؛ بل امتد إلى دراسة العلوم العقلية مثل: الرياضيات، والكيماء، والهندسة. بالإضافة إلى علوم الفلسفة، والمنطق، والتاريخ، والأدب؛ الأمر الذي يشير إلى انفتاحه الفكري على كل علوم ومعارف عصره.

ألف في شتى العلوم – في التفسير، والحديث وعلومهما، والفقه، والنحو، والمنطق، والتاريخ، والأصول، والأدب، وله الشعر الرائق، والنثر البليغ، وبلغت كتبه نحو 180 مُصنفًا، وامتدحه الناس شعرًا، ونثرًا، وكاتبه الملوك والعلماء من مختلف الأقاليم، وحظي فكره باهتمام كثير من الباحثين، وتعددت وتنوعت الدراسات التي غطت جوانب مُختلفة من فكره وحياته.

نشأ العلامة الشوكاني في صنعاء، وأخذ في طلب العلم بجميع فنونه، تفقه على مذهب الإمام زيد، وبرع فيه، وفاق أهل زمانه، وتصدر للإفتاء وهو في سن العشرين، وتحلى بمنصب الاجتهاد وهو دون الثلاثين، ولم يقيد نفسه بمذهب معين؛ بل رد على خصومه بأنَّه يقف موقفًا واحدًا من جميع المذاهب، والأهم من ذلك أنَّه ساهم من خلال دروسه في نشر فكره المُعتدل، حتى صار له تلاميذ وأنصار كثر.
      
تولى المنصور علي بن المهدي عباس الإمامة بوصية من أبيه 19 رجب 1189هـ / 7 سبتمبر 1775م، وسار خلال السنوات الأولى من حكمه على خطى سلفه، ثم ما لبث – كما أشار المؤرخ لطف الله جحاف أنْ «استرخى للمُلك، ومال إلى اللذات، وحياة الترف»، كانت غالبية حروبه دفاعية، فهو لم يخرج خلال مدة حكمة التي تجاوزت الـ 35 عامًا من صنعاء لغزو، بل أناب عنه في معظمها ولده الأكبر، وقائد أجناده الأمير أحمد، وتبعًا لذلك لم يعد هذا الإمام كأسلافه حاكمًا باسم السماء، مُحرضًا للجهاد ضد كفار التأويل – أعداء المذهب وأعداءه.
      
ساهم ذلك التوجه في تنامي حراك صنعاء الفكري، لتبرز في ذلك الخضم حركة رفض شيعية مناهضة له، تبناها غلاة الزّيدِيّة، كان لهم مساجدهم ومجالسهم الخاصة، يلوكون فيها ما يتفق وهواهم، ويشتمون هذا، ويطعنون بنسب هذا، وقد تصدى لهم العلامة الشوكاني بكل ما أوتي من عقل وحكمه، حارب التعصب المذهبي؛ «لما يترتب عليه من الفتن المفضية إلى سفك الدماء، وهتك الحرم، وتمزيق الأعراض، واستحلال ما هو في عصمة الشرع ما لا يخفى على عاقل»، فجرت له مع المُتعصبي محن وخطوب يطول شرحها.

وهو في الـ 35 من عمره، وأثناء تصدره للتدريس في جامع صنعاء الكبير 1208هـ / 1794م، كتب العلامة الشوكاني رسالة أسماها: (إرشاد الغبي إلى مذهب أهل البيت في صحب النبي)، دافع فيها عن الصحابة رضوان الله عليهم، جراء ما يتلقونه من السب المُقذع، والتجريح الشنيع من قبل مُتعصبي الزّيدِيّة، الأمر الذي أثار غضب الأخيرين، شنوا هجومهم عليه، وناله من أذيتهم الكثير.
     
ومما قاله عنهم: «فجالوا وصالوا، وتعصبوا وتحزبوا، وأجابوا بأجوبة ليس فيها إلا محض السباب والمشاتمة، وكتبوا أبحاثًا من كُتب الإمامية والجارودية، وكثرت الأجوبة حتى جاوزت العشرين، وأكثرها لا يعرف صاحبه»، وأضاف: «لقد شاهدت من التعصبات في هذه الفتنة ما بهرني من الخاصة والعامة، والتي غلت مراجلها وكادت تعم أهل صنعاء، ثم تسري بعد ذلك إلى سائر الديار اليمنية، ولقد تغيرت بهجة هذه المدينة العظيمة، وتكدرت مشاربها».
     
توقف العلامة الشوكاني عن إلقاء دروسه أيامـًا، ولم يُسارع بالرد على هؤلاء المُتعصبين، وما حزَّ في نفسه كثيرًا موقف مُعتدلي الزّيدِيّة، ممن يؤيدونه فكرًا وغاية، سيطر عليهم الخوف، والتزموا الصمت؛ حتى لا يطالهم ما طاله، فانتقدهم لموقفهم ذاك قائلًا: «ولو تكلموا بالصواب، أو نصروا من يتكلم به، أو عرَّفوا العامة إذا سألوهم الحق، وزجروهم عن الاشتغال بما ليس من شأنهم، لكانوا يدًا واحدة على الحق، ولم يستطع العامة ومن يلتحق بهم من جهلة المتفقهة إثارة شيء من الفتن». 
      
لم يكتفِ مُتعصبو الزّيدِيّة بالشتم والتجريح، وتأليب العوام؛ بل توجهوا صوب المنصور علي، مُبالغين في شكواهم، مُحرضين إياه على أنْ ينزل بغريمهم أقسى العقاب، إلا أنَّه – أي الإمام – لم يُعرهم أي اهتمام، وقد صور العلامة الشوكاني ذلك المشهد قائلًا: «وعظم القضية عليه – يقصد الإمام – فمنهم من يشير عليه بحبسي، ومنهم من ينتصح له في إخراجي من موطني، وهو ساكت لا يلتفت إلى شيء من ذلك، وقاية من الله، وحماية لأهل العلم، ومُدافعة عن القائمين بالحجة في عباده»، ومن منطلق رب ضارة نافعة، تحول العلامة الشوكاني إلى صديق مقرب لذلك الإمام، وعينه الأخير كاتبًا له.
      
كان أول عمل قام به المنصور علي – عام توليه الإمامة – أن أعاد تعيين العلامة يحيى بن صالح السحولي قاضيًا للقضاة، وبوفاة الأخير 1 رجب 1209هـ، صار ذلك المنصب شاغرًا، وهو المنصب الثاني من حيث الأهمية بعد منصب الإمام، وبعد أخذ ورد بينه وبين مُستشاريه، لم يجد إمام صنعاء من هو أهل لذلك المنصب من صديقه العلامة الشوكاني.

تولى العلامة الشوكاني منصب القضاء الأكبر بعد تردد كبير، فقاده باقتدار لافت، وأكسبته هذه الوظيفة ووظيفته الأخرى كاتب الإمام نفوذًا كَبيرًا، وصار من رجال الدولة الفاعلين. أدى دوره كمستشار سياسي أمين على أكمل وجه، وكانت نصيحته الصادقة مسموعة عند ولاة الأمر، وعند غيرهم. والأهم من ذلك تنامي دوره الإصلاحي في المُجتمع، وأصبح أكثر ارتباطًا بالناس ومُعاناتهم، ومنهم استمد قوته، ومضى مُدافعًا عن حقوقهم حتى آخر لحظة من عُمره.
     
في العام التالي لتولي العلامة الشوكاني ذلك المنصب، وامتدادًا لحركة الرفض الشيعية التي سبق وأشرنا إليها، قام متعصبو الزّيدِيّة بمسيرة ليلية صاخبة في شوارع صنعاء، مُرددين فيها لعناتهم على معاوية بن أبي سفيان، ثم توجهوا غاضبين صوب منازل من كانوا يلقبونهم بـ (الأمويين) كـ آل العلفي، وبعض علماء السنة، وقذفوها بوابل من الحجارة، وجه المنصور علي عساكره لصدهم، فخمدت الفتنة. 
     
وفي المُقابل لم تتوقف غزوات قبيلة برط خلال تلك الفترة، استمر القاضي المُتعصب عبدالله بن حسن العنسي بقيادتها جنوبًا، وقام بسبع غزوات جنونية مُوزعة على عدد من المناطق الوسطى. قبيلة خولان هي الأخرى عاودت غزواتها، وقامت بقيادة الشيخ محمد بن سعيد أبو حليقة بغزو حبيش، وآنس، وعنس، وريمة، وقد وصف العلامة الشوكاني ذلك الوضع المؤلم بقوله: «فبالله كم من بحار دم أُريقت، ومن نفوس أُزهقت، ومن محارم هُتكت، ومن أموال أُبيحت، ومن قرى ومدن طاحت بها الطوائح، وصاحت عليها النوائح، بعد أن تعطلت وناحت بعرصاتها المُقفرات النوائح».
     
كما شنَّ هجومًا حادًا على تلك القبائل، واصفًا إياها بأشنع الصفات، ومن ضمن ما قاله: «غالبهم يستحل دماء المسلمين وأموالهم، ولا يحترمها، ولا يتورع عن شيء منها، وهذا مُشاهد معلوم لكل أحد، لا ينكره جاهل، ولا غافل، ولا مقصر، ولا كامل، ففيهم من آثار الجاهلية الجهلاء أشياء كثيرة يعرفها من تتبعها»، وأضاف: «كلهم إلا النادر الشاذ، لا يحسنون الصلاة، ولا يعرفون ما لا تصلح إلا به، ولا تتم بدونه من أذكارها، وأركانها؛ بل لا يوجد منهم من يتلو سورة الفاتحة تلاوة مجزأة إلا في أندر الأحوال!!». 
     
بعد مضي ستة أعوام من مظاهرات مُتعصبي الزّيدِيّة الأولى، أصر أحدهم ويدعى يحيى بن محمد الحوثي ذات نهار رمضاني على الذهاب إلى الجامع الكبير، كي يجاهر بسب ولعن الصحابة، إلا أنَّ المنصور علي وجه بإعادته إلى حيث كان، جامع الإمام صلاح الدين.
      
ثار حينها أنصار الحوثي 14 رمضان 1216هـ / 20 يناير 1802م، ومنعوا إقامة الصلاة، ورفعوا أصواتهم باللعن، وانضم إليهم من في نفسه دغل للدولة، أو متستر بالرفض، ثم اقتدى بهم سائر العامة، فخرجوا إلى الشوارع، يصرخون بلعن الأحياء والأموات، حتى صاروا ألوفًا مؤلفة، ثم توجهوا إلى بيوت معارضيهم من مُعتدلي الزّيدِيّة – خربوا، وكسروا، وأحرقوا، ونهبوا، وأفزعوا الأطفال والنساء. 
      
اجتمع المنصور علي في اليوم التالي بأعوانه ومُستشاريه، أشار عليه العلامة الشوكاني بحبسهم، ففعل، ومن ثبت تلبسهم بالسرقة، ضربوا وعزروا بضرب المرافع على ظهورهم، أما رؤساء تلك الفتنة فقد أرسلوا مُقيدين بالسلاسل إلى زيلع، وجزيرة كمران، وحبسوا فيهما، ونتيجة لذلك اتهم المـُـتعصبون العلامة الشوكاني بقتل أحد فقهائهم، وعمدوا على اغتياله وهو يُدرس في الجامع الكبير.
       
بعد الحملة الفرنسية على مصر 1213هـ / 1798م، سارع الإنجليز باحتلال جزيرة ميون، ثم كمران، ولم يستقروا فيهما بسبب تضاريسهما الوعرة، ليعقدوا بعد ذلك اتفاقًا مع الشريف حمود أبو مسمار (صاحب أبي عريش)، اشترطوا عليه أنْ لا يستخدم الفرنسيون جُزر وموانئ البحر الأحمر التابعة له، وهو ذات الطلب الذي توجهوا به بعد أربعة أعوام إلى إمام صنعاء، خاصة وأنَّ ميناء المخا كان لا يزال تحت يد الأخير، ومما زاد الطين بلة، احتكار الأمريكان لتجارة البن، وجميع تجارة اليمن الخارجية.
      
تفاقمت بفعل ذلك الأزمات الاقتصادية، لترفع الصراعات الداخلية وسوء الإدارة من وتيرتها، لجأ المنصور علي إلى زيادة الضرائب، وتغيير العملة، بمباركة وفتوى من بعض العلماء، بحجة أنَّ الدولة لا تقوم إلا على ذلك، ولا تتّم إلا بما جرت به العادة من الجبايات ونحوها، فعم الغلاء، وكثر البلاء، وزادت حوادث السرقة، والسلب، والنهب، وقطع الطرقات.
       
استاء العلامة الشوكاني من تصرف المنصور علي، وانتقده بقصيدة شعرية، وراسله ناصحًا بـ «ضرورة العدل في الرعية، والاقتصار في المأخوذ منهم على ما ورد به الشرع، وعدم مُجاراته في شيء، وإخلاص النية في ذلك، وإشعار الرعية في جميع الأقطار، والعزم عليه على الاستمرار»، لينجح بعد ذلك في إقناعه بإصدار مرسوم – حرره بيده – يقضي برفع المظالم عن الرعية، والاقتصار على ما حدده الشرع، وبصفته قاضي القضاة أمر عمال الدولة بتنفيذه، إلا أنَّ الأمراء الاقطاعيين وبطانة السوء حالوا دون ذلك.

لم ييأس العلامة الشوكاني حينها؛ بل سارع في كتابة رسالة (الدواء العاجل في دفع العدو الصائل)، شخّص فيها الأدواء الماثلة، ووضع الحلول الناجعة الصالحة لكل زمان ومكان، وأكد أنَّ مصدر الخلل هو عدول أولي الأمر عن القيام بوظائفهم الأساسية من حفظ شرع الله، وإقامته بين الناس، واستغلال مناصبهم الإدارية في خدمة أغراضهم الشخصية، وتحسين وضعيتهم المالية، وأضاف: «فإن الأمور الشرعية والفرائض الدينية هي التي شرّع الله نصب الأئمة والسلاطين والقضاة لإقامتها، ولم يشرّع نَصْبَ هؤلاء لجمع المال من غير وجهه، ومصادرة الرعايا في أموالهم بإضفاء ما أوجبه الله عليهم».
     
كما أنّه قام بتقسيم المُجتمع اليمني إلى ثلاثة أقسام: رعايا يأتمرون بأمر الدولة، ورعايا خارجون عن سلطان الدولة، وسكان المُدن، وبيّن أنَّ مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل ولاية انحصرت في ثلاثة مسؤولين: عامل، وكاتب، وقاض. شن هجومه على ثلاثتهم، فالعامل – حد وصفه – لا عمل له إلا استخراج الأموال من أيدي الرعية بالحق والباطل، والكاتب شريكه في كل شيء، وليس له من أمر إلا جمع ديوان يكتب فيه المظالم التي يأخذها العامل من الرعايا، أما القاضي فقد اتهمه بأنَّه جاهل بالشرع، وبأحكام القضاء، ولا يدفع الظلم عن الرعية، ولا يأخذ بيد الظالم، وأنَّ جل همه جمع الأموال من الخصوم، والدفاع عن منصبه ببعضها.

اشتهر المنصور علي بإيكال أموره إلى وزراءه، حتى اضطربت أحوال دولته، وكاد زمامها أنْ يفلت من تحت يديه، خاصة عندما تولى الوزارة حسن العُلفى، الذي استبد وتحكم في كل شيء، واستخف بالأمراء، وقصر في أرزاق الأجناد، وأعطيات المشايخ، الأمر الذي شجع القبائل الشمالية على التمرد، فكثرت حوادث القتل والنهب، وحُوصرت صنعاء أكثر من مرة، ومات كثير من سكانها جوعًا، وأنهك من تبقى في انتظار المجهول، وكان العلامة الشوكاني قد قدم نصيحته الصادقة للإمام بعزل الوزير المذكور، وعبر عن ذلك شعرًا، جاء فيه: 
تدارك أمير المؤمنين الذي بقى
فعما قريب ليس يغني التندم
وكل مصاريف البرية قطعت
ومن قبله كانت إليهم تسلم
رعاياكم ماتوا من الجوع جهرة
ومات رجالٌ فضلهم ليس يُكتم
      
تحققت نبوءة العلامة الشوكاني، وثار الأمير أحمد على ذلك الوضع 26 رجب 1223هـ، قبض على الوزير العُلفي، وزج به في السجن؛ الأمر الذي أغضب والده، فأرسل ولي العهد جماعة من عساكره، أحاطوا بالمقام، ودارت مناوشات محدودة، تدخل المصلحون بسرعة لإخمادها. كان العلامة الشوكاني واحدٌ منهم، وظّف ثقله السياسي بمساندة الأمير في انقلابه الأبيض، وكانت نتيجة مساعيه أنْ سُلمت السلطة إلى الأخير، على أنْ يحكم باسم أبيه.

بعد وفاة المنصور علي 15 رمضان 1224هـ / 25 أكتوبر 1809م، آلت الأمور بسلاسة لولده الأمير أحمد ذي الـ 55 عامًا، تلقب الأخير بـ (المـُـتوكل)، وهو أحد أبرز تلاميذ العلامة الشوكاني، أعاد للدولة جزءًا من هيبتها، وتخلص من بطانة والده، وأظهر الحزم وبعد النظر، وعفا عن كثير من المُتمردين.

توجهت قبائل بكيل – في العام التالي – صوب المناطق الوسطى، وعاثت فيها كالعادة نهبًا وخرابًا، لم يغض المـُـتوكل أحمد كوالده عنهم الطرف؛ بل توجه على رأس حملة عسكرية كبرى لمطاردتهم، طهر عددًا من الحصون من قبضتهم، وتنقل – وعلى مدى ثمانية أشهر – من منطقة إلى أخرى، قضى شهرين منها في مدينة تعز، وبصحبته العلامة الشوكاني الذي أشاد به لتصرفه ذاك كثيرًا.
     
أعجب العلامة الشوكاني بمدينة تعز أيما إعجاب، ومدحها بقصيدة شعرية شاعرية، نقتطف منها:
أما ترى تعز في الليل غدا
يرتقص الجو بها من الطرب
كأنما القات المؤاتي بها
قضبانُ ياقوت وأقراطُ ذهب
وماؤها يحكي الهواء رقة
كما حكى ذوب اللجين في الصبب

كانت دولة آل سعود الأولى حينها في قمة عنفوانها، قامت الأخيرة بعد 61 عامًا من تأسيسها بِعدّة عمليات توسعية، شملت مُعظم مناطق الجزيرة العربية، وتهامة، ووصلت في إحداها إلى مشارف صنعاء، وهددت دولة الإمامة بالزوال، اضطر حينها المُتوكل أحمد أن يهادنهم، خاصة بعد أنْ عاودوا إرسال رسلهم ومكاتيبهم إلى صنعاء، وقد تولى العلامة الشوكاني – سابقًا ولاحقًا – مُهمة التفاوض، والرد عليهم.
 
المهدي عبد الله بن المُتوكل أحمد، هو آخر الأئمة القاسميين الأقوياء، تولى الإمامة يوم الخميس 18 شوال 1231هـ / 13 سبتمبر 1815م، في مُخالفةٍ صريحة لوصية والده المتوفي، الذي كان قد أوصى لأخيه القاسم، الأصغر منه بثلاث سنوات، وقف العلامة  الشوكاني إلى جانبه، وامتدحه بالقول: «كان راجح العقل، شريف الاخلاق، محمود الخصال».
    
تبقى المُحاولات الفَردية في تغيير مَسار التاريخ عن سياقه المَعهود خَالدة بخلود أبطالها، وما العلامة الشوكاني إلا واحدٌ من هؤلاء المُحاولين، دخلت الدولة القاسمية بوفاته 27 جمادي الآخر 1250هـ / أكتوبر 1834م – عن 76 عامًا، ووفاة المهدي عبدالله في العام التالي مرحلة الموت السريري؛ بل وعجزت عن حكم صنعاء نفسها.

عادت الإمامة الزّيدِيّة بعد ذلك إلى وضعها المُعتاد، المليء بالخلافات الأسرية، والصراعات المناطقية، يتلقفها تارة أدعياء العلم والشرع والدين، وتارة أمراء طامحون من الأسر العلوية المُتنافسة، وحين تولى الإمامة الفقيه المُتعصب، والجارودي المُتطرف، الناصر عبدالله بن الحسن، حارب العلماء المُجددين، وزج بهم في السجون، وحاول – ومعه حشد كبير من غلاة الزّيدِيّة – إخراج رفاة العلامة الشوكاني من القبر لحرقها؛ كونه بنظرهم المتهم الأول والرئيس بحرف الإمامة عن مسارها العنصري، وتعد تلك الحقبة بشهادة كثير من المُؤرخين مرحلة ودولة العلامة الشوكاني.

  • كاتب من اليمن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى