البيضاء.. حائط الصد المنيع (1-3)
يوم الوزير أقبل
بلال الطيب *
بمُوجب اتفاقية الحدود الشطرية بين العثمانيين والإنجليز مارس 1914م، كانت البيضاء واقعة في الجزء الجنوبي المُحتل؛ مع العلم أنَّها لم تكن خلال السنوات الماضية خاضعة للأخيرين، وهي تاريخيًا مُرتبطة بيافع والعواذل وبيحان ومأرب، ولأسباب لا نعلمها لم ترتبط بمعاهدة حماية مع الإنجليز، وباحتلال الإمام يحيى لها أواخر عام 1923م فرض أمرًا واقعًا، وهو الأمر الذي لم يستطع فرضه على شبوة المُجاورة، والتي لم تدخل مثلها تحت الحماية الإنجليزية، وهناك من يقول أنَّ الإنجليز سلموها له مُقابل الحديدة.
في كتابه (اليمن والغرب)، قال أورد إريك إنَّ القوات الإمامية انتزعت البيضاء من يد الإنجليز، وهي معلومة مغلوطة تناقلها للأسف الشديد عدد من الباحثين المُتأخرين، والتوصيف الصحيح لهذه الجزئية ما ذكرناه أنفًا (أنها كانت واقعة في الجزء الجنوبي لا الحماية الإنجليزية)، وهو ما أكده أيضاً المُؤرخ سيد مصطفى سالم بقوله: «ولذلك يعتبر البيضاء هو الإقليم الوحيد الذي استطاع الإمام أثناء منازعاته مع بريطانيا أن يضمه إلى بلاده، كما يعتبر التعديل الوحيد الذي أدخل على الحدود الأنجلو – تركية، بالرغم من الحروب الطويلة بين الطرفين».
قبل التوسع في ذكر تفاصيل اجتياح القوات الإمامية لبلاد البيضاء، وجب التذكير أنَّ رداع المُجاورة كانت من أوائل المناطق التي خضعت لحكم الإمامة؛ وذلك بعد أنْ أرسل الإمام يحيى بعلي بن محمد المطاع ومعه 500 مُقاتل لضبطها ديسمبر 1918م، ولم يكد يحول الحول حتى غادرها الأخير، وحل يحيى بن علي الذاري محله، ليعود المطاع بعد مرور عامين لتولي عمالة قضاء رداع للمرة الثانية، وهو أمرٌ كان له ما بعده.
جدد المطاع هذه المرة العزم على اجتياح منطقة السوادية، وراسل الإمام يحيى طالبًا المدد، فأرسل الأخير بـ 1,000 مُقاتل من أرحب وخولان وحاشد، ومعهم أحد المدافع، وكان معه – أي عامل رداع – أكثر من 800 مُقاتل، وبأوامر من الإمام نفسه، تولى شيخ مخلاف العرش صالح بن صالح الطيري قيادة تلك القوات مُجتمعه؛ كونه من أهل المنطقة، وأدرى بمسالكها.
الهجوم الإمامي الذي بدء في 6 نوفمبر 1921م، سبقه استعدادات مُكثفة؛ فقد نجح العامل المطاع باستمالة الشيخ أحمد قايد الجبري إلى صفه، وأخذ منه رهائن الطاعة، وكانت بلاد الشيخ المذكور (آل غُنيم) أولى المناطق سقوطًا، حط في اليوم التالي الجيش الإمامي فيها، وإلى الشيخ الطيري حضر أعيان المناطق المُجاورة، من آل السلال، وآل بصير، وآل سرحان، وآل منصور، والشيخ ضيف الله علوي من عبس، والشيخ طالب بن أحمد من عَمِد، جميعهم التزموا بالطاعة، ودخلوا – كما أفاد المُؤرخ الإمامي عبدالكريم مطهر – في سلك الرشاد.
وإكمالًا للمشهد، أترككم مع ما قاله ذات المُؤرخ: «ثم انتقل الجيش من هنالك – يقصد من آل غنيم – مُنتقلًا في بلاد السوادية، وقد هرب أهلها، وكذلك أهل عفار وذاهبة والطفَّة.. فعاد بالأمان سكان وادي عمد، وهي قرى مُتعددة.. وبعدهم طلب الأمان أهل الطاهرية.. وكذلك أهل زهران وآل عواض.. ووصل مشايخهم إلى المحطة، ثم سلاطين أهل ذي خير من آل بهجة، ووصل كبارهم إلى المحطة، ودخلوا في الطاعة رغبة ورهبة».
وبحسب المُؤرخ مُطهر أنَّ السلطان صالح بن أحمد الرصاص لم يخضع بسهولة، استعد للمُواجهة، وكان أخوه السلطان حسين شريكه في ذلك، وإليهما انضم الشيخ سالم أبو بكر، والشيخ أحمد صلاح من عفَّار، ومعهم أعيان الطفَّة، ومجاميع من الملاجم، وذي ناعم، والشيخ عبدالله الخضر من آل غُنيم، والأخير غادر بلدته بعد أنْ اجتاحتها القوات الإمامية، وفي دوره المُشرفة على عفَّار تمركز أفراد من تلك القوات.
حاول عامل رداع علي المطاع استمالة السلطان صالح الرصاص إلى صفه، ولكن دون جدوى، تحصن الأخير ومن معه من مُقاتلين في حصون عفَّار، وعن لحظات المُواجهة الأولى قال المُؤرخ مُطهر: «ولما لم تنفعه رسائل النصح، أمر مولانا الإمام بمواقعته هو ومن معه في تلك الحصون، فرتب قائد الجيش جند الإمام، فجعل أرحب مع المدفع في جهة، ومعهم المقدمي – يقصد النقيب محمد بن عبدالوهاب بن سنان الأرحبي – وأهل رداع يتقدمون إلى محلات الطَفَّة من وراء الحصون؛ لمنع مدد العدو من جهة الشرق، وخولان يتقدمون إلى محلات معينة، بقصد الحصار لمن في الحصون».
وهكذا، وبعد حصار شديد، ومعارك عنيفة، تمكن قائد القوات الإمامية من معرفة الحصن الذي يتحصن فيه السلطان صالح الرصاص، فتم تركيز القصف المدفعي عليه، حتى انهارت إحدى جوانبه، ولإسكات قذائف ذلك المدفع، تسلل الشيخ أحمد صلاح من حصنه المُجاور خفية، وتمترس بالقرب من المدفعيين، وأردى النقيب عبدالوهاب بن حسين أبو حليقة قتيلًا، وبجانبه اثنين من المُقاتلين؛ الأمر الذي أربك الإماميين، وخلخل لبعض الوقت صفوفهم.
بعد ثمانية أيام من الصمود، وبعد أنْ يئس المُقاومون من وصول المُساندة من قبيلة مراد المُجاورة، غادروا حصونهم المنيعة، فاستولت عليها القوات الإمامية، وجاءت أوامر الإمام يحيى بهدمها، وعن ذلك قال المُؤرخ مُطهر: «ودخل المجاهدون إلى الحصون، واستولوا عليها، وأمر الإمام بإخراب الحصون، فوضعوا فيها الباروت وأشعلوه، ولم يُؤثر فيها، ثم أخربت بالأيدي، وبقي الجيش يعمل في هدمها أيامًا».
سقطت السوادية، وما كان لها أنْ تسقط؛ لولا خنوع الشيخ أحمد الجبري ومن تبعه من المشايخ، والشيخ المذكور – كما أفاد المُؤرخ الحجري – من أسرة تُنسب لأبي لهب بن عبدالمطلب، وهي معلومة – حسب باحثين مُتأخرين – غير صحيحة، وواحدة من تلفيقات الأئمة السلاليين التي دأبوا على تكريسها؛ لكسب مزيد من الأنصار، ولخلق عصبية سلالية ينعشوها وقت الحاجة، وقد استفادوا منها عبر تاريخهم الطويل أيما استفادة.
وبقراءة فاحصة لتاريخ بلاد قيفة، نجد أنَّ الأسر التي ساد الاعتقاد أنَّها لهبية النسب، مثل: آل أحمد، وآل مهدي (الذهب)، وآل غنيم (الجبري)، وآل محن يزيد (جرعون)، وآل مصعب (المصعبين)، والأخيرين استوطنوا بيحان، نجد أنَّ معظمهم ساندوا الأئمة السلاليين بسبب الاعتقاد الخاطئ أنهم وإياهم أبناء عمومة، بعكس الأسر الأخرى، مثل: آل عفار، وآل الهادي، وآل عواض، وآل سواد، وآل الطاهر، وآل غشام، وآل منصور، والأخيرين بطن من بطون مراد.
وبالعودة إلى تفاصيل الحملة الإمامية على السوادية، فقد خلص المُؤرخ مطهر – ناقل تفاصيلها – إلى القول: أنَّ عامل رداع علي المطاع أخذ الرهائن من جميع قبائل السوادية، وبنى فيها بعد أنْ استأذن الإمام دارًا للحكومة، واستمر في مساعيه في استمالة السلطان صالح الرصاص، فيما عُين الشيخ أحمد الجبري عاملًا لتلك الناحية.
كان ثمة خلاف بين سلطنة الرصاص الواقعة شمال شرق مدينة البيضاء، ومركزها مسورة، وهي مجاورة لمُراد، وعُرفت تاريخيًا بـ (بني أرض)، وبين مشيخة الحميقاني الواقعة جنوب غرب ذات المدينة، ومركزها الزاهر، والأخيرة مجاورة ليافع والعواذل، وهو الخلاف الذي استغله الإماميون جيدًا، فتح شهيتهم لاجتياح السوادية، وما بعد السوادية، وقبل التوسع أكثر في نقل تفاصيل هذه الجزئية، وجب التذكير أنَّ تلك المنطقة كانت قد شهدت قبل ذلك حربًا بين آل الرصاص وآل الحميقاني، انتهت بقتل الشيخ عبدالرب صالح الحميقاني، ليتصدر ولده الشيخ علي – أحد أبطال هذه الجولة – المشهد.
بعد فشله في إيقاف سيطرت القوات الإمامية على السوادية، عاد الشيخ صالح أحمد الرصاص إلى بلدته مسورة، وكانت في انتظاره حرب أخرى مع آل الحميقاني، المُسيطرين حينها على مدينة البيضاء، ولا نستطيع الجزم بتحديد طبيعة السيطرة الحميقانية على ذات المدينة، وهل كانت حينها دائمة أم مُستجدة؟
الوثائق البريطانية التي وثقت لأحداث تلك الحقبة اكتفت بذكر أمير البيضاء دون ذكر اسمه، وفي الوثيقة رقم (5/416 fo 13) مارس 1901م – مثلًا – وجدنا إفادة سلطان لحج – كان حينها أحمد فضل العبدلي – بأنَّ الأتراك يسعون جاهدين لاستمالة سكان بيحان، وكذلك قبيلتي العوالق العليا والواحدي.. وأنَّهم يستخدمونه لاستمالة أمير البيضاء، وأنَّه يتحاشى ذلك.
كانت هذه المناطق حينها مُستقلة، ولم تكن خاضعة للأتراك ولا للحماية البريطانية، باستثناء سلطنة الواحدي، وخلص كاتب الوثيقة إلى القول: «إذا ما استطاع الأتراك استمالة أمير البيضاء والعوالق العليا فإنَّ طريق القوافل الرئيسية بين عدن وحضرموت ستغلق في وجهنا، أو ستفرض الرسوم الباهظة على التجار الذين يستخدمون تلك الطريق».
وبالعودة إلى موضوعنا، موضوع الخلاف بين آل الرصاص وآل الحميقاني، فإنَّ الحرب الثأرية بينهم لم تتوقف خلال العام 1922م؛ خاصة بعد أنْ تمكن الشيخ علي عبدالرب الحميقاني من قتل السلطان صالح الرصاص ثأرًا لوالده، وكان عامل رداع علي المطاع قد تواصل بواسطة عامل السوادية الشيخ أحمد الجبري مع ذات السلطان، ومناه بعودة البيضاء لقبضته، وحكمها باسم دولة الإمامة المُتوكلية.
هذه الإشارة التي أوردها المُؤرخ مُطهر تجعلنا نجزم أنَّ سيطرة آل الحميقاني على مدينة البيضاء كانت مُستجدة، وأنَّها – أي ذات المدينة – كانت خلال السنوات الماضية خاضعة لآل الرصاص، وأنَّ الأمير المذكور في الوثائق البريطانية ربما يكون هو نفسه السلطان صالح الرصاص، خاصة إذا ما علمنا أنَّه حين قُتل كان كبير السن، وكان قاتله متزوج من ابنة أخيه وخلفه السلطان حسين الرصاص، وهو الأمر الذي عقد المشهد كثيرًا، والأكثر أهمية أنَّ بعض المراجع أطلقت على المنطقة تسمية (سلطنة البيضاء).
ارتفعت وتيرة الحرب الثأرية بين آل الرصاص وآل الحميقاني، ومن شقوق ذلك الخلاف تسلل الإماميون أكثر فأكثر، ونجحوا في استمالة السلطان الجديد حسين أحمد الرصاص إلى جانبهم، ليتوجه الأخير برفقة عامل السوادية الشيخ أحمد الجبري إلى صنعاء مارس 1923م، مُستنجدًا – كما أفاد المُؤرخ مطهر – بالإمام يحيى، وحظي بوعد بتعيينه عاملًا على البيضاء؛ في حال خضعت الأخيرة للسيطرة الإمامية.
بعد مرور ثلاثة أشهر من ذلك اللقاء، سلم السلطان حسين الرصاص أحد أولاده رهينة؛ فما كان من الإمام يحيى إلا أنْ كلف أمير ذمار الشاب عبدالله بن أحمد الوزير بإخضاع البيضاء، نفذ الأخير بعد استعدادات مُكثفة الأمر، وتوجه بـ 4,000 مُقاتل وبعض المدافع جنوبًا 23 سبتمبر 1923م، وفي رداع انضمت إليه قوات أخرى، ليمدحه أثناء خروجه ذاك الشاعر محمد بن يحيى الإرياني بقصيدة طويلة، قيل أنَّها – كما أفاد المؤرخ إسماعيل الأكوع – أثارت تخوف الإمام يحيى منه، وأدت فيما بعد لرفع نفوذه من البيضاء وإب وزبيد ووصابين وعتمة، وحصره في ذمار، وقيل أنَّ الشاعر أراد ذلك لأنَّه – أي ابن الوزير – تعرض لقريب له، ومن قصيدته الطويلة نقتطف:
سر حيث شئت فإنَّ جندك ظافر
وانزل بحيث ترى فأنت القاهر
تاهت بك البيضا ومالت نعوةٌ
طربًا وغنى في الغصون الطائر
شهدت له يوم النزال مواردٌ
مشهورة عند العدا ومصادر
لم يتحقق حدس الشاعر الإرياني، فقد كانت البيضاء سدًا أسودًا على الأمير عبدالله الوزير وجيشه العرمرم، صحيح أنَّ آل منصور الملاجم طلبوا الأمان، وصحيح أنَّ الشيخ سالم أبو بكر رفع راية الاستسلام، إلا أنَّ غالبية أبناء قبائل البيضاء تصدوا للقوات الإمامية، وأذاقوها الأمرين، وقد حدثت أولى المواجهات – كما أفاد المُؤرخ محمد زبارة – في بلاد بني عمر 14 أكتوبر 1923م، حاول المقاومون الذين تجاوز عددهم ألـ 1,400 مُقاتل صد الزحوفات الإمامية، ولكن دون جدوى.
الشيخ علي الحميقاني هو الآخر لم يخضع أو يلين، قاوم وقبيلته (بنير) مقاومة الأبطال، وقاتل قتال الشجعان، وعنه قال المُؤرخ محمد زبارة مُتحاملًا: «وتعقب هذا – أي تعقب معركة بني عمر من ذي ناعم – إعلان الحميقاني من مشايخ تلك البلاد للفساد والعصيان، وتصميمه على التمادي في البغي والطغيان، ثم تفريقه لما وصل إليه من أموال النصارى في بعض أعمار تلك البلاد، حتى تجمعوا إليه ورتبهم بحصونه التي هي على مسافة ساعة من مدينة البيضاء».
تتحدث الذاكرة الشفهية عن معارك شرسة شهدتها تلك الجغرافيا الصامدة، عُرفت إحداها بـ (معركة كبد)، وفيها خسر المُقاومون الشيخ محسن الحميقاني، وعُرفت الثانية بـ (معركة مشعبة)، هُزمت فيهما القوات الإمامية، وخلدهما الشيخ علي الحميقاني بقوله:
ويوم الوزير اقبل علينا مقدما
وجا وان قومي في مراكز كبد نضور
ولا مشعبة حيث امشالي تفلهما
وظلت تفاصح في امساعي وامضبور
.. يتبع
- كاتب وباحث يمني.