القيمة التاريخية لملحمة السبعين يومًا
بلال الطيب *
ما كان لمعارك الشعوب الكبرى أن تظل حية في أفئدة ومشاعر الأجيال، لو لم يوظف مُفكروها طاقاتهم الإبداعية الخلاقة من أجل نقل وقائعها مثلما كانت على أرض الواقع، وهذا ما عمل عليه كثيرٌ من الباحثين اليمنيين، وكان أشهرهم على الإطلاق الشهيد جار الله عُمر، أحد أبطال ملحمة السبعين يومًا المُلهمين.
لم يكتفِ جار الله عُمر بذلك؛ بل نصح المُهتمين بإكمال تلك المُهمة، على اعتبار أنَّ دلالات بطولات ملحمة السبعين يومًا تتعدى الإشباع العاطفي، فقد تجسدت فيها ذاتية الشعب اليمني الحقيقية التي تصبو دائمًا نحو الحرية والاستقلال، ومُناهضة كل طغيان خارجي كان أو داخلي.
دخلت الجمهورية الوليدة مسارات مُتعرجة، لتأتي نكسة يونيو 1967م، ومُؤتمر القمة العربية بالخرطوم في أغسطس من ذات العام، وتزيدان الطين بلة، وهكذا صار خروج القوات المصرية أمر حتمي، ليبدأ الجمهوريون حينها بالاستعدادات للدفاع عن صنعاء، ولملمة صفوفهم، وإعادة الضباط الموقوفين إلى أعمالهم – كان جار الله عمر أحدهم – آخذين في الاعتبار تحررهم من العقدة اليزنية، وأنَّهم سوف يقاتلون هذه المرة بمفردهم، وهو ما كان.
تجسدت الترجمة العملية لتلك الاستعدادات في أكثر من موقف، وكان أبرزها مظاهرة 13 أكتوبر 1967م، التي غَصَّت بها شوارع العاصمة احتجاجًا على وصول اللجنة الثلاثية المُنبثقة عن مُؤتمر الخرطوم، وبرغم الحوادث المؤسفة التي تخللتها، وبرغم أنَّها ساهمت في إضعاف موقف الرئيس عبدالله السلال، ومهدت للانقلاب عليه، فقد كانت – كما أفاد جار الله عُمر – عملًا جماهيريًا لم يسبق له مثيل في تاريخ العاصمة، فهي لم تُرغم لجنة التدخل العربية على مُغادرة صنعاء خائبة، وتحت حراسة مُشددة فحسب؛ بل كانت قبل كل شيء بروفة للصمود والمقاومة، ومُؤشر حقيقي إلى أنَّ الانتصار في تلك المعركة المصيرية سيكون من صنع الشعب بأسره.
كان جار الله عُمر أحد أبطال ملحمة السبعين يومًا المرموقين، تصدر وأقرانه الضباط الصغار المشهد، وتحملوا مسؤولية الدفاع عن صنعاء باقتدار، وذلك بعد هروب غالبية الضباط الكبار، وقيامهم برحلة الشتاء إلى القاهرة وبيروت ودمشق وأسمرة، تم تكليفه وأقرانه من ضباط وطلاب كلية الشرطة بحماية مطار صنعاء القابع تحت مرمي نيران الإماميين، وكانت له وأصحابه أدوار بطولية في تلك الجبهة، ذكرها تفصيلًا في كتابه (القيمة التاريخية لمعركة حصار السبعين يومًا).
تحدث جار الله عمر عن أبطال تلك الملحمة بإنصاف، ولم ينجر كغيره للانتقاص من بعضهم، وحتى زيارات الفريق حسن العمري اليومية للجبهات، والتي كانت محل تندر كثيرين، أشاد بها، وقال عنها: «ولقد كانت لزياراته – يقصد الفريق العمري – المفاجئة تلك أثر إيجابي على معنويات المُقاتلين الجمهوريين، مثلما كان يحدث دائمًا في زياراته المُختلفة التي دأب على القيام بها، وإنْ على عجل، وبدون تخطيط، وفي كل مرة كان يرى أنَّ الموقف يستدعي ذلك».
كانت معارك السبعين عند جار الله عُمر ملحمة مُقدسة، ولأجل تخليدها كتب كتابه القيم (القيمة التاريخية لمعركة حصار السبعين يومًا)، صحيح أنَّه لم يتعمق أكثر في يومياتها، فقد اكتفى بذكر ما يعرفه، وما عايشه، تاركًا باقي المهمة لغيره، مُطالبًا – في ذات الوقت – المُهتمين بتسجيل وقائع تلك الملحمة بدقائقها، لا من أجل راحة ضمائر صناع مجدها الذين قضوا في سبيلها، إنَّما ليقولوا لأجيال ما بعد سبتمبر بكل موضوعية وأمانة علمية: ما الذي حدث بالضبط، وأي ثمن استخلصت تلك الثورة، وما الذي يتعين عليهم أنْ يفعلوا؟ لا لمجرد الاحتفال عند حلول ذكراها، وإنَّما من أجل إعادة الروح الثورية إلى مبادئها الستة؛ كي تنبض بالحياة من جديد، مثلما كانت عند الميلاد الأول.
* كاتب من اليمن