عن خرافة السلالة والولاية – التسلل الفارسي للثقافة الإسلامية
د. لمياء الكندي
كغيري من القَراء لكتاب “خرافة السلالة والولاية”، لكاتبه الأستاذ “أحمد الحميري”، وجدتني أمام تشخيص تاريخي للحالة الشيعية الحاضرة التي تمثلها إيران اليوم. لقد تمكن الكاتب من رصد حركة التطور السياسي والفكري الذي أنتج المذهب الشيعي وجميع التفاعلات الحضارية التي رافقته حتى بدا بصورته الحالية، والذي أحال الإسلام الشيعي إلى محارب حقيقي للإسلام (السني) والعروبة.
تظل مسألة الاختلاف والتعدد المذهبي طبيعية وسط المجتمعات المحمية بقوة الدستور والقانون بل قد يكون لذلك التعدد والاختلاف إفرازاته الايجابية، التي تنجبها ثقافة الاختلاف هذا الاختلاف الذي لا يتعدى حدوده ليصبح مطية لإثارة الفتن والحروب وللمشاريع التدميرية، وهذا تماما ما يحدث في عالمنا العربي، الذي لم تنتج فيه ثقافة الاختلاف الحزبي، والتعددية السياسية، والمذهبية، إلا أنواعا شتى من العصبيات السياسية والدينية التدميرية، للدولة وللمجتمع، من هنا ومن خلال مسيرة طويلة من التاريخ العربي برزت مشاريع تهديد الهوية العربية والإسلامية بصورة متنامية، ارتبط هذا التهديد الناتج عن الفتح الإسلامي لبلاد فارس وإسقاط الامبراطورية الفارسية الساسانية على أيدي البدو المقاتلين بمثابة إهانة للثقافة الفارسية، التي حاولت جاهدة الانتقام من هذا الواقع الذي فرضته الفتوح الإسلامية وتجاوز آثاره العسكرية والثقافية والدينية.
لم تسلم العديد من النخب الفارسية بتبعية بلادهم للخلافة الإسلامية، حيث ظلت العديد من المدن تجدد رفضها وتمردها أمام سلطات الأمر الواقع التي فرضتها جيوش الخلافة الإسلامية هناك.
كانت التبعات السياسية والثقافية والدينية التي أحدثها هذا الفتح، كبيرة ومريرة لدى الزعامات الفارسية التي لم تستغن عن حلمها أو بالأصح طموحها في استعادة مكانتها ودورها الحضاري قبل الفتح الإسلامي لذا ظل الترابط الفارسي في العهد الإسلامي مشدودا نحو الموروث الديني والفكري والحضاري الذي مثل الأمة الفارسية، وشكلت مسألة استعادته عقيدة ثابتة لدى الشخصية الفارسية، حتى اليوم.
ومن هنا كان دور رجال الدين والسياسة في البحث عن آليات مناسبة لاستعادة الأدوار الحضارية لهم، ولما كان الإسلام بمكنونه العربي يمثل التهديد الحقيقي للامبراطورية الفارسية، قديما وحديثا، سعت العناصر الفارسية المتشيعة، إلى استنساخ نسخة إسلامية خاصة بهم بحيث ظهر عمليا الإسلام الفارسي “الشيعي”، الذي شكل المقابل الثقافي والمذهبي والسياسي المعادي للإسلام بارتباطاته العربية القديمة والحديثة، الإسلام “السني”.
ولعل خطورة هذا النوع من التهديد للهوية الاسلامية والعربية يكمن في مساعيهم إلى السيطرة المطلقة على نظام الحكم كونه الأداة الأكثر قدرة على تغيير وحكم الجماهير وتحويل عقائدها ومن هنا وجه الفكر الشيعي رصاصته الأولى على رأس الحكم في الدولة الإسلامية، فكان نزاعهم وخلافهم الأول والأخير مع غيرهم من المذاهب السنية يدور ويكمن حول مسالة الحكم، والسعي نحوه وأن أي حكومة إسلامية لا تمثل رؤيتهم في الحكم، هي حكومة مغتصبة للحكم وللشرعية!
من هنا أحال الشيعة الفرس عبر مذاهبهم المختلف نظرية الحكم إلى أئمتهم، ومن يرتبطون معهم برابط النسب فتمكنوا من، إثارة قضية الحكم وإحالتها إلى مسألة اغتصاب حق سياسي لآل البيت العلوي وحقهم الإلهي في الحكم، ومن هنا كانت البداية لنشأة “خرافة السلالة والولاية”، في الفكر الشيعي التي حاول الباحث والكاتب القدير الأستاذ “أحمد الحميري”، فضحها ورصد تطورها التاريخي وأبعادها السياسية والاجتماعية والدينية وأثرها على المجتمع فقضية التشيع تجاوزت مداها وافقها الديني، لتصبح مشروع دولة عنيت بتوجيهه ورعاية أنشطته واحتضانه كمقوم خاص من مقومات الهوية الفارسية الحديثة بعد الإسلام.
وبناء عليه كانت مسألة التشيع إحدى أهم المشاريع التفكيكية التي واجهت الإسلام، والتي قامت على أساس الادعاءات الاصطفائية الكاذبة التي تبنت فكرة العشيرة المقدسة كما عبر عنها الكاتب. حيث كان رجال الدولة والحكم، الفارسيون، يتوارثون العقيدة الشيعية المصبوغة بتوجه فارسي يجدد انتماءهم إلى الثقافة الفارسية القديمة، التي تمكنوا من تسريب مقوماتها الفكرية وأضافوا عليها مزيجا من الممارسات الخاطئة والعقائد الشائعة من الديانات الأخرى، ليتم تدجينها عبر مراحل تاريخية، بين الفئات الدينية والشعبية المسلمة ذات الصبغة السنية، ولتي وقعت ضحية الفكر الشيعي، وأصبحت أداة من أدواته التي يمارس من خلالها القمع وتبجل بينهم الخرافة والأساطير.
وتم من خلال ما بثته هذه العقيدة المشوهة عن الإسلام ونظرية الحكم، وما نتج عن الصراع حول مقام الخلافة، وما تبع ذلك من مظالم تاريخية استحقت بموجبها حسب التفسير الشيعي لها، أن تستحوذ على حركة التاريخ وتجعل من هذا الحق ومن هذه المظلومية شرعية أبدية لا ينتهي تأثيرها الا بأمارات وعلامات تتجلى بظهور “المهدي المنتظر”، فتاريخ حركتهم الذي بدا بصراع ومظلومية، قد لا يكون لنا نحن الأجيال الحاضرة أي علاقة بأحداثها، إلا إنهم يصرون على تحميلنا تبعات هذه المظلومية المفتراة، بمظلوميات لا تعد ولا تحصى، قد تفرج وتعجل بخروج الإمام الغائب حسب معتقدهم.
ولتنتهي تلك المظلومية بخرافة أربكت المشهد السياسي الحاكم نفسه في إيران ودولها المتعددة عبر التاريخ، التي حاول رجال الدين والحكم محاولة الخروج من تداعياتها، ليذهبوا فيما بعد للحديث عن اجتهادات فكرية تمكن ساسة البيت الفارسي من الحكم تحت شرعية الإسلام بنسخته الفارسية!
واستمر التطور في النظرية الفارسية للحكم التي حاولت أن تنفض عنها تبعات الغيبة الكبرى للإمام المهدي، لتخرج أخيرا بمعادلة مرضية لشاهنات الحكم الفارسي في طهران ومنها كان اعتماد الخميني لنظرية ولاية الفقيه وهي الولاية التي أطلقت يد رجال الدين الإيرانيين لممارسة مهام أكبر في السياسة وتحويل الصراع العربي الفارسي من صراع سياسي له أطماعة ومبرراته، إلى صراع سياسي ومذهبي يهدف إلى تحويل هوية المجتمعات العربية والدولة العربية إلى الهوية الفارسية بعقيدتها المذهبية والعسكرية.
وهو مشروع التهام واحتواء خطير، سعوا من خلاله، إلى غرس اليد الضاربة وسط هذه المجتمعات للوصول إلى الغائية النهائية من هذه الحركة، فالحرب أو الصراع بينيا كأمة عربية، وبينهم، ليس مجرد حرب أطماع أو صراع مصالح ومواقع أو نزاع حول حدود وممرات مائية، انه صراع هوية ووجود يدركون أبعاده أكثر منا، فإيران لا تخشى على مجتمعها من أي محاولات لتغيير الديمغرافية السكانية وعقيدتها المذهبية لصالح المذهب السني، فلديهم من اليقظة ومن العدائية، مثل ما لدينا من التغافل والتهاون والجبن الذي واجهنا من خلاله مشاريعهم التدميرية، التي عبرنا عنها في فترات سابقة على إنها سياسات تسامحية، وحريات عقائدية ومذهبية، تفرضها روح العصر وطبيعته، إلى أن وجدنا عواصمنا العربية تتساقط واحدة بعد أخرى في يد هذا المارد الشيعي الذي يحاول جاهدا ابتلاع منطقتنا وتسخيرها وضمها ضمن مشاريعه الخاصة.
ولنا في جزء لاحق إن شاء الله محاولة لجمع أهم النقاط والمسائل التي أثارها كتاب “خرافة السلالة والولاية”، لمؤلفه “أحمد الحميري”، في وقت لاحق بإذن الله تعالى.