جازم محمد الحروي (1-3)
جازم محمد الحروي (1-3).. المُحفز الأول
بلال الطيب
من اليمنيين رجالٌ قهروا الصعب، وأذلوا الكرب، وأناروا الدرب، حياتهم صُمود ونضال، وماضيهم أماني وآمال، وأقول وأفعال. سحقوا في لحظة ثورة الباغي، ودكوا الظلم، وجاؤوا بالمُحال. ما أكبرهم من قادة، وما أعظمهم من أصحاب سبق وريادة، أجادوا مُقارعة الطاغي حق الإجادة، وبهم تحققت السيادة، ولهم وجبت الإشادة، وعنهم أخذنا زاد الطريق وزيادة.
جازم محمد عبدالله الحروي واحدٌ من هؤلاء المُلهمين. لديه شخصية فذة، وسيرة عطرة، وقصة مُشوقة، ولأجل إخراج خفاياها المائزة قررنا الإيغال في صفحات تاريخنا القريب، ومن بين السطور المُشتتة تجلَّت الروعة، وحضرت العبرة، وتبددت الحسرة؛ كيف لا وبطلنا المغمور هذا – صاحب سبق، وصانع تحول، ومُناضل من الطراز الأول، زاوج في باكورة شبابه بين العمل التجاري والسياسي، وأثبت حضوره في أحلك الظروف، وأسوأ المواقف، ولم يكن رأس ماله قط جَبانًا.
عاش مُضيئًا كملاك، كريمًا كنبي، نبيلًا كملك، بمحاضن الخير والفضيلة تربى، وبموارد الحق والعدالة تشبث، وبمحافل الصمود والإقدام ترقى، وتصدر بلحظات فاصلة المشهد، فكان بحق من أنبل الرجال، وأشجع الفُرسان. حباه الله نفسًا مُتقدة، وروحًا وثابة، وقلبًا كبيرًا، حمل في حناياه هموم وطن، وآلام شعب، وتشكلت في داخله كتلة من الأماني البسيطة، والمشروعة، حفز بها أقرانه على مُقاومة الحاضر والماضي، واستشرف من خلالها المُستقبل بنفاذ سُلطاني، وألهم عُشاق الحرية على المضي قُدمًا بصمود يماني.
هو الثائر المُتحمس الذي أصاب أعداءه بالحيرة، والمعين المُتدفق الذي أصاب حُساده بالغيرة، والمُتئد المُتمهل الذي أصاب أصحابه بالذهول. أحب الناس، وأحبوه، ولم يجدوا في مسيرته النضالية الحافلة بالتفرد والشمول حقدًا ولا كراهية، ولا غرورًا ولا أنانية؛ بل وجدوه رائدًا بَصيرًا، وقائدًا حكيمًا، ذا هِمَّة عالية، وتضحية غالية، وعزيمة لا تقهر، وإقدام لا يتكرر، وما يزال كرمه – كما أفاد لطفي فؤاد – حتى اللحظة حاكيًا عنه، ونُبله شاهدًا له، وجهاده دليلًا عليه.
وصفه الأستاذ أحمد محمد نعمان بأنَّه نادرٌ في التجارة والتجار، واعتبره الداعم المالي الأكبر والوحيد للأحرار، الوحيد في الداخل طبعًا؛ كون مُعظم الداعمين كانوا حينها من المُهاجرين. أذهل أكثر من مرة القاضي محمد محمود الزبيري بروعة عطائه، ونُكران ذاته؛ فظنه ملاكًا طهورًا أنجبته الغمائمُ، وقال أنَّ الأرض أخرجته وحده مُعجزا، وأنَّ آلام أمته هربت من كل قلب، ولاذت في خفاياه.
ولد جازم الحروي في الأغابرة – حيفان مُنتصف العام 1922م، لأسرة ميسورة الحال، وتلقى علومه الأولية على يد الأخوين عبدالله وعبدالقادر عبدالإله الأغبري، وكعادة أبناء منطقته المجبُولين على السعي في الأرض، وطلب الرزق الحلال، مارس بطلنا النبيل العمل التجاري باقتدار لافت، وفتح بالاشتراك مع أخيه محمد متجرًا صغيرًا، ونشط في تجارة الجلود، وظل لذات الغرض مُتنقلًا بين دولة الحبشة ومدينة تعز.
هناك وفي مدينة تعز تعرف جازم الحروي عن قرب على الأستاذ أحمد محمد نعمان، ورفيق دربه القاضي محمد محمود الزبيري، استضافهما في منزله أكثر من مرة، وأعجب بهما، واستشعر صدقهما، ونقاء سريرتهما، وحُبِهما الفياض للوطن المُنهك، ورغبتهما العارمة في تخليصه من براثن الظلم والطغيان، وحين رآهما يترددان على ولي العهد أحمد يحيى حميد الدين، لا حبًا في الأخير؛ بل أملًا في إصلاحه، بعد أنْ يئسوا من إصلاح والده، قال لهم: «بدلًا من أنْ تظلوا تُبعثروا أدبكم وأفكاركم في تقديس الحُكام، اخرجوا نحو الشعب».
جازم الشاب المُتحمس، ذو الـ 22 ربيعًا، كان أكبر من سنه بكثير، لم يكتفِ بالتحفيز المعنوي؛ بل تكفل بالدعم المادي؛ خاصة بعد أنْ تعذرا له الثائران العظيمان بضيق الحال، وبالفعل نجح بعد جُهد جهيد، وبمساعدة القاضي عباس أحمد باشا في تهريبهما إلى عدن 4 يونيو 1944م، وقيل أنَّه شارك بعد فترة وجيزة في تهريب القاضي زيد الموشكي، وأحمد محمد الشامي إلى ذات الجهة، وفيه قال الشاعر الكبير عبدالله عبدالوهاب نُعمان مُشيدًا:
يُؤلب في فجر النضال رعيلها … ويستنفر الغادين فيها مُناشدا
ويمشي إلى آلامها وجراحها … يشق لها ثوب الشباب ضمائدا
ويسرح في ديجورها وظلامها … ليزرع فيها أنجمًا وفراقدا
تقلده جيد المروءة جوهرًا … أصيلًا وأعطى الناس منه القلائدا
تعلم عنه الناس جُود نفوسهم … فقد كان فيهم للحمية رائدا
بعد خمسة أشهر من عملية التحفيز والتهريب تلك، ألقى الإمام الطاغية يحيى حميد الدين القبض على جازم الحروي في صنعاء، وزج به وخمسة من رفقاء النضال – سنأتي على ذكر أسمائهم – في سجن الرادع، وذكر بطلنا النبيل أنَّهم قبضوا عليه بعد أنْ وجدوا رسائل منه للنعمان والزبيري سبق وأنْ سلمها لعبدالوهاب الشامي – شقيق أحمد محمد الشامي السابق ذكره – المُسافر حينها إلى عدن، وهي حد وصفه رسائل عادية لا تُدينه، ولا تؤكد قيامه بمساعدة الأحرار، فيما كانت تهمة رفقائه الاشتباه بقيامهم بتوزيع مُنشورات مُناهضة لحكم الإمامة، وهي التهمة التي طالته أيضًا.
كان القاضي إسماعيل بن علي الاكوع أحد أولئك الأبطال الستة، وأصغرهم سنًا؛ بل لم يتجاوز عُمره عامذاك الـ 12 ربيعًا، وهو من خاطبه الإمام يحيى حين رآه قائلًا: «شيطان من بيت أمه، نزغة على الحليب»، تحدث هو الآخر بإسهاب عن مُعاناتهم، وكيف تم التعزير بهم في شوارع صنعاء قبل ترحيلهم إلى مدينة تعز، ومما قاله: «طاف العسكر بنا على شوارع صنعاء للتشهير بنا، وتعزيرنا “دردحه” بلغة صنعاء، وتجمع الناس حولنا، ورمتنا العوام والأطفال بكل الأوساخ، وبذاءة الكلام، وأشد التُهم، وكان كله شيء لا يُطاق».
أتت بعد ذلك الرحلة الأكثر مرارة وقسوة، ستة من أحرار اليمن يُقتادون إلى إب، ثم إلى تعز، ثم إلى حجة، وهم مُكبلين بالأغلال، وعلى عنق كل واحدٍ منهم طوق حديدي جلف، وعليه قفل غثيمي أجلف، ومن الأعناق المُنهكة تتدلى سلاسل حديدية مُتصلة، قيدت حركاتهم، وكتمت أنفاسهم، وزادت آلامهم، ولم يستطع أي منهم – كما أفاد القاضي الأكوع – أنْ يكون حُر الحركة أو التصرف إلا بما يعود على البقية بالمحنة والإضرار.
طريقٌ وعرة، وشمسٌ حارقة، وريحٌ جافة، وبردٌ قارس، وعُكفة بُلداء زادوا الطين بلة، ساموا الأحرار الستة سواء العذاب، وجرعوهم صنوف الإذلال، والأشد والأنكى أنّ هؤلاء العساكر كانوا يُصرون على أنْ يدفع كل واحد من أولئك الأبطال ريالًا كاملًا مُقابل أنْ يسمحوا له بقضاء حاجته بعيدًا عن الطريق! على شرط أنْ يبقى مربوطًا في تلك السلاسل المُتصلة، وعن تلك الجزئية المُقززة قال الأكوع: «وكم لاقينا من الضيق والحرج، وكم قاسينا من آلام مُخجله لمُواجهة تلك الحالة، وذلك التعنت.. المُؤلم أنَّ البعض منا كان يتعذر عليه قضاء الحاجة ونحن بالقرب منه؛ بل كنا في الحقيقة مُتلاصقين»، وأضاف: «ومن العجيب أنَّ بيت حميد الدين وأسلافهم مثلهم لا يختارون لمثل هذه الوظائف الا العساكر القساة الأغبياء، وكانوا يُسمونهم تضليلا بهم “حُمران العيون”».
من جهته تعمق الشاعر محمد محمود الزبيري أكثر في نقل تفاصيل تلك الرحلة القاسية، وخلَّد ذكرها وذكر بطلنا النبيل في قصيدة طويلة أسماها «قيد جماعي»، صور فيها بدقة مُذهلة مُعاناة جازم وصحبه، وكيف هدهم الألم، وأذلهم العسكر، وأنهكهم الجوع، وقد نُشرت تلك القصيدة للأسف الشديد مبتورة في ديوانه الشعري الثاني «صلاة في الجحيم»، حيث قام القائمون على تبويب ذلك الديون بحذف مُعظمها، وبالأخص الأبيات الخاصة بجازم الحروي، ولا نعرف لذلك التصرف حتى اللحظة سببًا، ولأهمية تلك الأبيات أعيد نشر أقواها مُتفرقة في السطور التالية.
ابتدأ القاضي الزبيري قصيدته تلك مُتحدثًا عن جازم الحروي، مُذكرًا بجميله السابق في حقه ورفيق دربه الأستاذ النعمان، وخصه بالإشادة قائلًا:
خاض الجحيم ولم يعبس مُحياه … ولم تفض من معين الجُود يُمناه
ساقوه في قبضة الأغلال غير يدٍ … كريمة لم تقيد من عطاياه
وعذبوه على صنع الجميل فلم … ينضب نداه ولا حالت سجاياه
وسيروه أسيرًا ينضوي معه … صحب له كالنجوم الزهر أشباه
وأضاف ناقلاً ومُختزلًا مُعاناة جازم ورفقاء رحلته:
طافوا بهم حَوْلَ صنعاء يطمسون بهم … حقًا يضيقُ به الطاغي ويخشاهُ
وطوَّقوهم جميعًا ضمن سلسلةٍ … من الحديدِ يهول الناس مرآهُ
يَكبُّ بعضهم بعضًا بمنكبه … وتلتقي أرجل منهم وأفواهُ
إذا تحرَّك منهم واحدٌ صرخوا … واستفحلت فيهم الآلامُ، والآهُ
كل امرءٍ منهم خطبٌ لصاحبه … يُؤذيه وهو بريءٌ حين آذاهُ
ضاقت رقابهمُ في الغل واحترقت … أقدامهم من رحيل طال منآهُ
اذا استغاث أسيرٌ من متاعبه … لبته بندقةُ الجندي ورجلاهُ
فنٌّ من البطش والتعذيب مُبتكرٌ … خليفة الله للأجيال أهداهُ
سيقوا جياعًا ولم يسمح مُعذبهم … أنْ يستعدوا بزاد يوم بلواهُ
وسار من خلفهم جند زبانية … إذا اتوا خزية من أمرهم تاهوا
يستمنحون من الأسراء مأكلهم … يا لؤم من راح يستجدي ضحاياه
والعسكري بليدٌ للأذى فطنٌ … كأنَّ إبليس للطغيان رباه
كان جازم الحروي، وعبدالسلام صبرة أكثر أبطال تلك الرحلة صمتًا وكتمًا للآلام، فيما كان محمد بن أحمد السياغي، وأخويه يحيى وحمود – الأخيران من شهداء حركة 1955م – أكثرهم تبرمًا ونقدًا للوضع. وحين وصلوا جميعًا إلى معبر – كتبوا برقية إلى الإمام يحيى يطلبون شفاعته بتخفيف العذاب عنهم، فرد عليهم: «من الإمام إلى صبرة ورفاقه، ما كان أغناكم عما ساقكم الشيطان إليه من إنكار نعمتنا على اليمن التي لا يوجد مثلها تحت أديم السماء، فاليمن لم تعرف حكمًا كحكمنا من عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب»!!.
تجلَّت في تلك الرحلة الشاقة صفات جازم الحروي النبيلة، وكعادته لم يبخل في الإنفاق على رفقاء مُعاناته، ولإيهام العسكر بأنَّ الصُدفة جمعته بأولئك المُناضلين؛ أخذ من الأخيرين سندات وهمية، فكان أنبل تضليل، وعنه قال القاضي الأكوع: «ولولا أنْ يسر الله بالأخ جازم المُتيسر بالنقود لكنا مُتنا جوعًا، وأغرب من ذلك أنَّ الجنود كانوا يتألمون لأنَّه كان يصرف علينا!»، وقد خلد الشاعر الزبيري ذلك الموقف في قصيدته السابق ذكرها، حيث قال:
لولاك جازم لم يطعم رفاقك … غير الموت أو يشربوا إلا حمياه
شاطرتهم كلما قد كان مُدخرًا … لديك لم تنفرد عنهم بنعماه
وخفت أنْ يفطن الطاغي بنبلك … فاستخدمت أنبل تضليل سمعناه
طلبت أنْ يكتبوا ما قد وهبت لهم … دينًا يدق على الحُراس مغزاهُ
لذاك أنقذتهم من شر مهلكة … قد كان يحيى طواها في نواياه
واستمر القاضي الزبيري في مدح جازم الحروي، تخليدًا لعطائه، وإغاضة لأعدائه، وقال عنه وعنهم:
يكفيك جازم أنْ زلزلت عاصمة … الطاغي، وأخرجت للدنيا خباياه
ماذا أصابك من أغلال نقمته … وأين قدرك مما كان يهواه
وأين أهواله اللاتي رماك بها … واين ما لذه منها وأرضاه
لم يستطع ملكه الجبار ينزع من … كفيك مجدًا عريضًا قد تحداه
حطمت أغلاله ثم اندفعت إلى … الأفلاك روحًا طهورًا فوق دنياه
وأنت ذا طائر عبر السماء ترى … الطاغي صغيرًا غريقًا في خزاياه
من جهته شارك المُناضل زيد الموشكي القاضي الزبيري نقل تلك المُعاناة، وخاطب هو الآخر الإمام يحيى قائلًا:
إلى أين بالأبطال تسعى بهم شدَّا؟ … أعقُلك باقٍ أم بك المسُّ لا يَهْدا
تُصفد أهل الرأي، ثم تَزفُّهم … بأغلالهم، والدهر بالنحس قد جدَّا
وتعتقل الأحرار، والدهرُ كاشرٌ … وسود الليالي منك قد بلغت جُهدا
وبالعودة إلى قصيدة القاضي الزبيري الطويلة، والتي وصل عدد أبياتها إلى 57 بيتًا، فقد ختمها أيضًا بالإشادة بجازم وأفعاله العظيمة، وقال مُذكرًا:
وقد أشدنا بذكرى جازم فله … حق علينا جميعًا ليس ننساه
ضحى بأعلاف دنياه وما علمت … شماله بالذي ضحته يمناه
نُبل تحير فيه الناس واضطربوا … لأنَّهم ما استطاعوا فهم معناه
من كان يدري بما يسمو لجازم من … شأن وما يتجلى من مزاياه
وكيف يكسب من مجدٍ ومن شرفٍ … ما أقعد العرش من عجزٍ وأعياه
وكيف يألم للشعب الذي رضيت … رجاله كل رزء من رزاياه
كأنَّما هربت آلام أمته … من كل قلب ولاذت في خفاياه
هذا جزاؤك يا من لا يشاطره … في جهده الضخم إنسانٌ عرفناه
وقبل التعمق أكثر في تفاصيل تلك الرحلة المأساوية، وجب التذكير أنَّ أحرارًا يمنيون كُثر تعرضوا لحوادث مُذلة مُشابهة، نذكر منهم مثالًا لا حصرًا: ثوار المقاطرة الـ 250 الذين اقتيدوا بعد سقوط قلعتهم إلى صنعاء، وهم يحملون رؤوس قتلاهم، في رحلة استمرت ثلاثين يومًا سبتمبر 1921م، ومشايخ تعز وإب الذين اقتيدوا أيضًا إلى صنعاء في رحلة استمرت ثمانية أيام مارس 1923م، والـ 800 ثائر زرنوقي الذين اقتيدوا بعد سقوط مدينة بيت الفقيه إلى سجون حجة المُوحشة في رحلة استمرت أسبوعًا كاملًا أكتوبر 1928م.
وفي المُحصلة التراجيدية لم تكن حادثة اعتقال وإذلال جازم الحروي وأصحابه الرابعة أو الأخيرة؛ بل سبقتها وتبعتها حوادث كثيرة مُتصلة، كان بطلنا مُشاركًا في إحداها – سنأتي على ذكرها – مع فارق أنَّ هذه الرحلة استمرت لأكثر من ثلاثة أسابيع، وكانت – كما سبق وأشرنا – على ثلاثة مراحل، وتضاعف أعداد ضحاياها إجمالًا إلى الخمسين؛ وذلك بعد أنْ أضاف الأمير الحسن حاكم إب، وولي العهد أحمد حاكم تعز بعض الأحرار، والذين كان غالبيتهم من أعضاء «جمعية الإصلاح» التي تأسست في مدينة إب بداية ذات العام.
.. يتبع