الإرهابي لا يتوب
أحمد مصطفى *
هناك بعض المهن ليس فيها تقاعد منها مهنة الصحافة، فحتى إذا ترك الصحفي وظيفته في منفذ إعلامي يظل يبحث عن الخبر وينقله بأي وسيلة تناسب وضعه، إن كان تركه الوظيفة لكبر السن أو كان ما زال في سن العمل فيعمل حرا، والآن لديه وسائل التواصل ومواقع المدونات.
كذلك مهنة الطب، ليس فيها تقاعد، بمعنى أن الطبيب لا يتوقف عن ممارسة مهنته حتى لو لم يعد موظفا في مستشفى أو عيادة.
مع أن القياس لا يجوز تماما، وفيه كثير من التعسف والتبسيط، إلا أن من يصبح عضوا في تنظيم الإخوان والجماعات الإرهابية التي خرجت من عباءته لا يعود عن ذلك أبدا، حتى وإن تلون وادعى ونافق لغاية أو مصلحة أو تفاديا لعقاب وحساب.
أقصد هنا من هو جزء عضوي من التنظيم أو الجماعات، أما المتعاطفين أو المضللين، فهؤلاء ليسوا “مهنيين” وبالتالي يمكن أن يتغير بهم الحال إن كان بمراجعة النفس أو تطوير الفهم أو حتى بانكشافهم على حقيقة ما.
يقولون إن من يقتل مرة يسهل عليه القتل، ومن صفات الإخوان الأصيلة الكذب كما التنفس، وهذا سلوك من اعتاده لفترة لا يتخلى عنه مهما حدث إذ يصبح جزءا من تكوينه.
لذا، لم تفلح برامج إعادة التأهيل وغيرها من محاولات المراجعات والهداية في استتابة المنظمين في الإخوان وجماعات الإرهاب.
ومن فقد منهم حضانة التنظيم أو الجماعة تمادى في ممالأة السلطة لكنه يظل تكوينا غير سوي يمثل عبئا وضررا وتخرج عقده في شكل مزايدات توهم من استتابه بنجاح التجربة لكن للأسف ربما لا يدرك الجميع مدى التشوه إلا بعد فوات أوان التدارك.
قد يرى البعض أن هناك استثناءات، وبالفعل هناك من أعضاء تلك التنظيمات والجماعات من “هداه الله” ونضج وعيه وغيّر أفكاره، وهناك أمثلة عن أفراد انقلبوا على الإخوان، واصبحوا من أشد معارضيهم وناقديهم، وكذلك الحال مع جماعات الإرهاب الأخرى التي جذرها الإخوان.
وأتصور أن كل ذلك خداع للنفس، إلا في حالة واحدة: صغار السن ممن يجندون من قبل التنظيم والجماعات ويرتدون مبكرا بمحض إرادتهم وليس نتيجة تجربة اعتقال أو سجن أو استمالة من السلطات أو غيرها.
هؤلاء، في جوهرهم لا تستقيم طبيعتهم مع “مهنة” الإرهاب وإنما غرر بهم وغشت بصيرتهم أوهام عقائدية يستخدمها من يجندهم، لكن ما إن ينغمسوا في التنظيم أو الجماعة حتى يكتشفوا زيف ما يعتقدون.
وهؤلاء يكون ارتدادهم شديدا وأصيلا، لكن ليس بفضل استتابة أو نصح أو هداية من أحد ولا خوفا من ضرر أو طمعا في غنيمة، إنما هم يعودون إلى طبيعتهم أصلا، والأهم أن هؤلاء لا يتعلمون الكذب والغدر والنفاق كما يمارسه الإخوان والجماعات الإرهابية.
كما قلنا هم “لا يشربون المهنة على أصولها” وبالتالي يخرجون من القبضة سريعا وبمحض إرادتهم، ومن يبقى منهم ينسحق.
خبرت على مدى عمري أصنافا من هؤلاء وأولئك، وحتى ممن “ينشقون” عن التنظيم والجماعة ويتطوعون لمساعدة الأمن والأجهزة و”خدمة الوطن”.
بالطبع، سيقول البعض: كيف نترك من ضللهم التنظيم والجماعات وغرروا بهم؟ أليس علينا أن نساعدهم للتخلص من الوهم والضلال والعودة لسبيل الرشاد لمصلحتهم ومصلحة الوطن؟.
الغاية هنا صحيحة، لكن الواقع أن فقط من يتركهم من تلقاء نفسه، على أن يكون مجندا ليس عضوا أصيلا، سيأتي إليك كمجتمع وما عليك إلا أن تدمجه.
نعم، لا حساب على النوايا وإنما يؤخذ الناس بأفعالهم. لكن أيضا لا يصح أن تؤخذ الأمور على عواهنها حتى نكتشف أن هؤلاء أكثر ضررا من النواة الصلبة للتنظيم والجماعات.
تلك التنظيمات والجماعات ليست شفافة وليس أعضاؤها مسجلين علنا، إنما من السهل تحديد الأصيل منهم فهم مثل أي جماعة متطرفة تتسربل بالدين أو بأفكار متطرفة أخرى يقوم بنيانهم على ترابط غريب ووثيق: علاقات نسب ومصاهرة وتداخل مصالح وارتباطات من كافة جوانب حياة البشر. ثم هناك الصفات الأساسية لهم: الكذب والغدر والنفاق، لكن بالطبع لا يمكن للمجتمع أن ينتظر ليختبر تلك الصفات لأن آثارها تكون آتت أؤكلها ووقع الضرر.
كما أن مجادلة هؤلاء بالحسنى ومحاولة إفهامهم صحيح الدين إنما يزيدهم وهما بقوتهم ويمكنهم من تجنيد المزيد على اعتبار أنهم فعلا لهم علاقة بالدين كما يدعون.
لم يكن هناك حل تاريخيا لأي تنظيم أو جماعة مشابهة إلا بالقضاء على النواة الصلبة لها، ولنتذكر أن الإرهابي لا يتوب لأنه تمرس في الكذب بما يجعله حالة ميئوسا منها.
* كاتب صحفي.