مواطنون أم رعية؟
عقيل عباس *
ليس ثمة مفردة ترد في القاموس السياسي العراقي بالتكرار الذي ترد فيه “المواطنة” في سياق التأكيد على مساواة العراقيين وضرورة احترام حقوقهم بدون تمييز.
في ذات الوقت، ليس ثمة مفهوم يتعرض للانتهاك والتقويض كمفهوم المواطنة، فقد تشكلت الحياة السياسية في عراق ما بعد 2003 على افتراضات غلبت مفهوم المكونات الذي ترتبت السياسة والمجتمع على المواطنة الفردية.
المواطنة في العراق “الديمقراطي” مفهوم سلبي، يسلب المواطن، كفرد، فاعليته السياسية وتفرده الإنساني لصالح المكونات التي تمثله سياسيا وتختصره إنسانيا في الصورة النمطية المكرسة لكل مكون (مثلا الشيعة كأغلبية مظلومة يستغلها الآخرون، والسنة كأقلية مستفيدة من عراق ما قبل 2003 وتقاتل دفاعا عن امتيازاتها المفقودة، والكرد كأقلية أخرى شرسة في تحديها بغداد وتأكيد اختلافها كمجموعة).
المواطنة مفهوم قديم يعود إلى زمن الإغريق في إطار تجربة الدولة-المدينة، حيث نشأت أقدم الديمقراطيات في التاريخ. بعكس فهمنا المعاصر لها، لم تكن المواطنة حينها حقا طبيعيا، بل امتيازا ذكوريا شمل أقلية في المجتمع، بدرجات مختلفة في نوعية المواطنة، هم الرجال الموسرون ذوو الأصول الأرستقراطية والفلاحون من الذين يملكون أرضا زراعية وأصحاب المهن والصنائع، واستثني منها النساء والعبيد والغرباء.
ارتبطت المواطنة في المدينة الإغريقية القديمة بالتأكيد القانوني على الانتماء للمدينة كمصدر لهوية المواطن حينها، وشددت على أهمية النشاط والمشاركة في إدارة شؤون المدينة، إذ كان على المواطنين معرفة هذه الشؤون والنقاش بشأنها لاتخاذ القرارات اللازمة عبر التصويت عليها، فضلا عن تولي مناصب في المدينة والاستعداد للدفاع عنها عند الخطر.
من هنا نشأت فكرة الواجب المدني (civic duty) على المواطن، التي اعتبر التخلي عنها عيبا أخلاقيا وشخصيا، ومدعاة لنزع صفة المواطنة قانونيا عن صاحبها أحيانا، أي أن المواطنة، في أصلها التاريخي، تعني انخراطا مستمرا بالشأن العام حفاظا على مصلحة المدينة.
في سياقها التاريخي، كانت المواطنة ترتيبا نادرا ومحدودا، فباستثناء الإغريق ثم الرومان، لم يعرف العالم هذا الفهم للهوية، بل ساد فيه مفهوم آخر مناقض هو الرعوية، أي اعتبار الناس رعية.
وبعكس المواطنة التي تربط انتماء الفرد بمكان جغرافي محدد يصبح مصدرا لهويته، ربطت “الرعوية” انتماء الفرد بالسلطة الحاكمة، أي بشخص الحاكم الراعي الذي يتولى الحفاظ على مصالح “الرعية”.
ثنائية الراعي والرعية المأخوذة مجازا من الاقتصاد الزراعي، حيث صورة الراعي الذي يرعى قطيع الماشية عبر قيادته إلى المواضع التي يتوفر فيها الماء والطعام له، هي في جوهرها ريفية الأصل وتفترض الإشراف الكامل على الرعية من جانب الراعي باحتكاره المعرفة والمهارة الضرورية والصحيحة وغير المتيسرة للرعية، وذلك بعكس المواطنة المدنية الأصل التي تفترض تشكل المعرفة والمهارة لدى المواطن كي يساهم، مع بقية المواطنين، في إدارة شؤون المدينة.
في التراث الديني اليهودي والمسيحي والإسلامي، ترسخت الرعوية التي يظهر بموجبها الحاكم كراع لمصالح الجميع (الرعية)، على أساس هذا المفهوم ترتبت، على مدى قرون طويلة، العلاقات السياسية والقانونية في المجتمع بين الحاكمين والمحكومين ضمن أطر تراتبية علوية تفترض السيادة والمعرفة لدى الحاكمين والجهل والطاعة في المحكومين.
مع بروز عصر النهضة الأوربي في القرن الرابع عشر فصعودا وما شهده من إحياء تراث العالم القديم، الإغريقي والروماني، ومزاوجته بالقيم المسيحية، وصولا إلى ما سمي بعصر التنوير في القرن الثامن عشر فصعودا، تعرض مفهوم الرعوية إلى تشكيك فكري وتفكيك قانوني ليستبدله تدريجيا، بحلول القرن التاسع عشر، مفهوم المواطنة الحديث كناظم أساسي للعلاقة بين الحاكمين والمحكومين.
في ظل الفهم الحديث للمواطنة الذي أكد عموما على كونها حقا طبيعيا عاما وليس امتيازا طبقيا وجندريا، بخلاف الفهم الإغريقي القديم، صارت شرعية الحاكمين مرتبطة بقبول المحكومين. هكذا فقدت منظومة الحكم التقليدية طابعها الرعوي والأبوي الفوقي لصالح الاختيار الانتخابي للمحكومين للحاكم عبر إقناع الأخير لهم بجدارته للحكم.
في الشرق الإسلامي الذي كان واقعا تحت السيطرة العثمانية، منذ بداية القرن السادس عشر، ساد الفهم الرعوي للحكم، امتدادا لتقليد الخلافة الإسلامية الذي يفترض الرعوية ويشترطها كأساس للشرعية السياسية والأخلاقية. تعرض هذا الفهم لتهديد شديد من النزعات الإصلاحية العثمانية في القرن التاسع عشر وصولا إلى تشريع الدستور العثماني في 1876 الذي مثل خطوة هائلة إلى الأمام للخروج من الطابع الرعوي للحكم من خلال إقراره الجريء ولأول مرة في التاريخ العثماني، بل والإسلامي، بمبدأ المساواة بين المحكومين، إذ نصت المادة السابعة عشرة منه: “العثمانيون متساوون أمام القانون، لهم نفس الحقوق والواجبات”.
هذا فضلا عن بنوده الأخرى التي نصت على تشكيل برلمان يقيد سلطات الحاكم، وعلى انتخابات في كل أرجاء الإمبراطورية لانتخاب هذا البرلمان.
طبق هذا الدستور لعامين فقط قبل أن يعلقه السلطان عبد الحميد، آخر دعامات الحكم الرعوي، ليمارس السلطة على النحو التقليدي المعتاد: حاكم مستبد مطلق الصلاحيات. حتى في عامي تطبيقه، لم يطبق هذا الدستور في العراق، لكنه عاد في عام 1908 ليطبق هذه المرة وسط دهشة عراقية عامة، أقرب للاستنكار منها للفرح، إزاء مفهوم المساواة الغريب الذي تضمنه.
مع ذلك، لم يذكر الدستور العثماني مفهوم المواطنة ولم يستخدم كلمة مواطن رغم إقراره بالمساواة التي هي إحدى اشتراطات المواطنة. كان هذا الإحجام العثماني عن ذكر المواطنة علامة على تردد سياسي وديني عن إحداث قطيعة كاملة مع المفهوم الرعوي في السياسة وعلى ارتياب بالمواطنة كمفهوم أوروبي للهوية يربط انتماء الشخص بالمكان الجغرافي وليس ببنية السلطة.
بعد إنشاء الدولة العراقية الحديثة في مطلع العشرينات، واصل الساسة الملكيون ذوو الثقافة العثمانية الذين أداروا العراق الملكي وكتبوا دستوره ارتيابهم بمفهوم المواطنة، وظلوا متأرجحين بينه وبين الرعوية، مع ميل لهذه الأخيرة. ظهر هذا واضحا في دستور 1925 الذي لم يشر إلى المواطنة أو المواطن، إذ استخدمت فيه جملة شبيهة بتلك الواردة في الدستور العثماني فقد ورد في المادة الثامنة عشرة: “العراقيون متساوون في التمتع بحقوقهم وأداء واجباتهم”.
بقي العراق الملكي، برغم جوانب حداثوية مهمة فيه اجتماعيا واقتصاديا، رعويا من الناحية السياسية والقانونية، إذ هيمنت عليه نخبة سياسية تقليدية ومحافظة احتكرت الحكم والقرار، ومارست أبوية سياسية واضحة، منعت عبرها دخول شرائح أخرى في المجتمع من الوصول إلى دوائر السلطة والقرار.
كان دستور 1958 المؤقت، الأول عراقيا في الإشارة إلى المواطنة، إذ ذكر فيه “المواطنون سواسية وبدون تمييز”، ورغم الدخول الواسع للعراقيين في السياسة حينها، كإحدى تعبيرات المواطنة المتساوية، بقى هذا الدخول فوضويا، بل دمويا أحيانا، بسبب فشل السلطة الجمهورية الجديدة في تنظيمه مؤسساتيا وتقنينه قانونيا.
لكن الاندفاع المنفلت لمفهوم المواطنة في العهد الجمهوري المبكر تراجع لصالح رعوية جديدة برزت وترسخت بعد سيطرة حزب البعث على مقاليد الحكم، ففي جوهرها كانت الدكتاتورية البعثية بتجليها الأشد خطورة على مدى عقود، صدام حسين، تشكيلا لرعوية حديثة، عمادها نظام شمولي شديد الصرامة والقسوة، حيث “القائد” يقود و”الجماهير” تتبع.
صورت ماكينة الدعاية البعثية المشهد على أنه تخل “طوعي” للمواطنين عن معنى مواطنتهم كفعل سياسي واع ومستمر، لصالح عبقرية الزعيم غير المحتاج لمعرفة مواطنيه.
كان إسقاط النظام البعثي الشمولي في 2003 فرصة نادرة لمغادرة الرعوية الحديثة التي شكلها هذا النظام، واستعادة مفهوم المواطنة الفاعلة من خلال مؤسسات ديمقراطية وآليات انتخابية ينتظم عبرها النشاط المدني والسياسي للمواطنين كذوات عاقلة وناشطة في صناعة الحدث.
لكن سلسلة من الأخطاء الأميركية، والتركة العميقة للرعوية البعثية، والطابع الانتهازي والفئوي المناهض للديمقراطية للأحزاب التي أدارت السياسة في البلد، كلها ساهمت في تكريس رعوية أخرى طوعية، هذه المرة، بخلاف رعوية صدام القسرية. في ظل هذه الرعوية الجديدة تخلى غالبية العراقيين، المنهكين من عقود الحصار الدولي والقمع البعثي، عن استعادة حقهم بالتفكير المستقل كمواطنين أفراد وأحرار لصالح زعامات دينية وحزبية ومناطقية تولت التفكير عنهم، بضمنها تحديد خياراتهم الانتخابية والهوياتية نيابة عنهم في إطار إذعان شعبي خطير قوض معنى المواطنة والديمقراطية.
عبر هذا الإذعان الشعبي والإشراف الأبوي للزعامات الرعوية هذه ترسخ الولاء المكوناتي، بوصفه تعبيرا هوياتيا عن الانتماءات الجماعية، ليتقوض الأساس الذي يقوم عليه نظام ديمقراطي حقيقي: الهوية الفردية للمواطن ككائن مستقل وواع يقرر لنفسه على أساس تفكيره وليس تفكير غيره نيابة عنه.
مثلت احتجاجات أكتوبر 2019، بإصرارها على أهمية الوعي الفردي في القرار، ضربة كبرى وصحيحة للرعوية المكوناتية التي جاءت بها الديمقراطية المزيفة لنظام ما بعد 2003، بعض مقولات هذه الاحتجاجات مثل “الوعي قائد” والعبارة العميقة المغزى في الأهزوجة الجنوبية التي اشتهرت أيام الاحتجاجات “تبت يدا كل تبعي بثورتنا فز بينا الوعي” مثلت رد فعل صحيحا وقويا، وإن كان متاخرا، على هيمنة قوى الرعوية المكوناتية التي قادت البلد إلى مستنقع خرابه الحالي.
سيحتاج الوعي الفردي في ظل مواطنة متساوية وفاعلة في الحيز العام كالذي دعت إليه احتجاجات أكتوبر أن يتسع ويتمثل سياسيا ومؤسساتيا كي يخرج العراق من مأزقه العميق، ويصنع مستقبلا مختلفا جدا عن المستقبل القاتم الذي يلوح في الأفق الآن.
* كاتب وأكاديمي عراقي.