دراسة جديدة عن أدوية علاج الاكتئاب وعلاقتها بهرمونات الدماغ
تتحدى نظريات راسخة حول الكآبة المرضية ودور مادة السيروتونين فيها وأثارت ردود فعل متباينة في صفوف البحاثة والجمهور
غريغ غرازيوسي
صدرت أخيراً نتائج مراجعة شاملة جديدة تتحدى المعتقدات العامة الراسخة حول سبب الاكتئاب، وأثارت ضجة في مجتمع الطب النفسي، بيد أنها لم تنصح الناس بالتخلي عن علاجاتهم المضادة للكآبة المرضية.
ونشرت المراجعة تحت عنوان “نظرية السيروتونين في الاكتئاب، مراجعة شاملة منهجية للأدلة”Serotonin Theory of Depression: A Systematic Umbrella Review of the Evidence في المجلة العلمية “الطب النفسي الجزيئي” Molecular Psychiatry.
وقد ذكرت أنه بعد استعراض مجموعة من الدراسات المنشورة سابقاً وإعادة النظر فيها بغية تفحص العلاقة التي تربط بين الاكتئاب ومستويات مادة الـ “سيروتونين” Serotonin [مادة كيماوية تعرف باسم هرمون السعادة، وتنتج في الجسم وتعمل كناقل للرسائل بين أعصاب الدماغ]. ولم تتوافر أدلة كافية تدعم الفكرة الراسخة بأن اختلالات في مستويات مواد كيماوية معينة في الدماغ تقف وراء هذا الاضطراب النفسي.
وبحثت الأسئلة الأساس التي طرحتها الدراسة في الأسباب التي تساند النظرية القائلة بأن الاكتئاب يعزى إلى “اختلال التوازن الكيماوي” في الدماغ، إذ تشكل تلك النظرية الافتراض السائد لدى المجتمع الطبي والجمهور الأوسع على حد سواء، على الرغم من الادعاء بالافتقار إلى الأدلة الكافية.
كذلك تطرقت الدراسة في المقام الأول إلى الكيفية التي أصبحت فيها تلك النظرية مهيمنة.
وعن تلك الورقة تحدثت إلى “اندبندنت” الدكتورة جوانا مونكريف، بروفيسورة في “كلية لندن الجامعية”، وقد عملت مونكريف استشارية في الطب النفسي طوال 30 عاماً لدى هيئة “خدمة الصحة الوطنية” في بريطانيا، إضافة إلى كونها من البحاثة الأساسيين الذين نهضوا بهذه الورقة العلمية، وتناول حديثها هذه الدراسة الحديثة والآثار المترتبة عليها، والردود التي تلقتها الدراسة من المجتمع الطبي والناس كليهما.
ماذا أوردت الدراسة تحديداً؟
ببساطة وجدت الدراسة أنه لا تتوافر أدلة كافية تدعم الاعتقاد السائد لدى عموم الناس وبعض المؤسسات الطبية، بأن اختلال التوازن الكيماوي في الدماغ يسبب الاكتئاب، ونتيجة لذلك تتساءل الدراسة عن الحكمة من لجوء الأطباء إلى وصف أدوية مضادة للاكتئاب للمرضى من دون فهم جيد وكاف للآثار الصحية الطويلة المدى التي تطرحها هذه العقاقير.
وكذلك تبين أن الدراسة “ركزت على النظرية التي تدعي أن الاكتئاب مرده إلى “اختلال كيماوي في الجسم” لا زالت مطروحة من جانب المتخصصين، خصوصاً نظرية الـ “سيروتونين” [التي ترى أن نقص الـ ’سيروتونين‘ يقف وراء الاكتئاب، وانطلاقاً من تلك النظرية فإن معظم مضادات الاكتئاب مصممة لزيادة مستوياته]، ولاحظت الدراسة أن تلك النظرية قد شكلت الأساس لجهد بحثي كبير شهدته العقود القليلة الماضية”.
وإضافة إلى ذلك لاحظت الدراسة “وجود اعتقاد سائد وواسع النطاق بين عامة الناس بأنه قد تبين بشكل مقنع أن الاكتئاب يحدث نتيجة اختلال في مستوى الـ “سيروتونين” أو غيره من اختلالات كيماوية في الدماغ، وكذلك يصوغ هذا الاعتقاد كيفية فهم الناس لحال المزاج لديهم [في التصنيف الطبي يعتبر الاكتئاب من اضطرابات المزاج]، مما يقودهم إلى نظرة متشائمة في شأن مسار الاكتئاب ونتائجه مع توقعات متشائمة حول إمكان تنظيم المزاج ذاتياً”.
وفي السياق نفسه لفتت الدراسة إلى وجود “فكرة مفادها أن الاكتئاب يظهر نتيجة عدم توازن كيماوي في الجسم، وتؤثر تلك الفكرة أيضاً في القرارات المتعلقة بتناول أدوية مضادة للاكتئاب أو الاستمرار عليها، وربما تثني الأشخاص عن التوقف عن العلاج مما قد يفضي إلى الاعتماد على هذه الأدوية طوال العمر”.
وشددت الدكتورة مونكريف في منشور لها بعد إصدار الدراسة، وخلال مقابلتها مع “اندبندنت”، على أن الأفراد الذين يستخدمون أدوية مضادة للاكتئاب من قبيل “مثبطات استرداد الـ ’سيروتونين‘ الانتقائية” (اختصاراً “إس إس آر آي إس”SSRIs ) ويفكرون في مسألة الاستمرار في العلاج أو التوقف عنه، يجب أن يفعلوا ذلك بتوجيه مستمر من الطبيب، وألا يتخلوا عن هذه العقاقير إلا بعملية مضبوطة ومدعومة طبياً وتدريجية زمنياً. [يفرز الـ “سيروتونين” في الدماغ كي ينقل إشارات معينة بين أعصاب الدماغ، وحينما ينتهي نقل الرسالة تتفكك تلك المادة ويعاد امتصاصها، مما يخفض مستواها في الدماغ، وتعمل مواد “إس إس آر آي إس” على منع عملية إعادة الامتصاص وبالتالي تبقي مستوى الـ “سيرتونين” مرتفعاً].
وبمعنى آخر ينبغي أن لا يتمثل رد الناس المعنيين تجاه هذه الدراسة في تعليق علاجاتهم المضادة للاكتئاب، بل يتوجب عليهم أن يواصلوا التعاون مع أطبائهم لمعالجة المشكلات في صحتهم العقلية والنفسية، وأي أسباب كامنة من شأنها أن تسهم في مواجهتهم الاكتئاب.
رد الفعل الأكاديمي على البحث
وعلى الرغم من هذه التحذيرات قوبلت الدراسة ببعض المعارضة داخل المجتمع الطبي، واجتمع عدد كبير من الأطباء دفاعاً عن استخدام العقاقير المضادة للاكتئاب بحجة أنه من المفهوم جيداً في المجتمع الطبي أن الاكتئاب ينتج عن مجموعة من العوامل، وليس اختلال التوازن الكيماوي وحده، إضافة إلى أن هذه العلاجات لا تزال فاعلة في التصدي لتلك الأعراض.
وفي ذلك الصدد نقل الدكتور ديفيد كيرتس، الأستاذ الفخري في “معهد علم الوراثة” في “كلية لندن الجامعية” إلى “المركز الإعلامي للعلوم” في المملكة المتحدة أن هذه “الورقة العلمية لا تأتي بأي نتائج جديدة وإنما تشير إلى نتائج نشرت في أوراق علمية أخرى، ولا ريب في أن القول بأن “انخفاض مستويات الـ ’سيروتونين‘ ليس السبب وراء الاكتئاب” لا يشكل أي أنباء جديدة، وذلك لأن فكرة أن الاكتئاب هو نتيجة لاختلال التوازن الكيماوي قد عفا عليها الزمن، وقد كتبت “الكلية الملكية للأطباء النفسيين” أن هذا كان بمثابة تبسيط كبير في بيان صدر العام 2019″.
ووفق الدكتور كيرتس “فليست المسألة أن مضادات الاكتئاب من نوع مثبطات استرداد السيروتونين الانتقائية تعزز مستويات الـ ’سيروتونين‘”، وفي الواقع يتمثل عملها الفوري في تغيير التوازن بين تركيزات الـ “سيروتونين” داخل الخلايا العصبية وخارجها، ولكن تأثيرها المضاد للاكتئاب ربما يكون بسبب تغيرات أكثر تعقيداً في وظائف الخلايا العصبية تحدث لاحقاً كنتيجة لذلك”.
وشدد الدكتور كيرتس على أنه “من الجلي أن من يعانون الاكتئاب لديهم بعض الخلل في وظائف الدماغ، حتى لو أننا لا نزال نجهل ماهية هذا الخلل، ومضادات الاكتئاب تشكل علاجات فاعلة للاكتئاب الشديد على عكس تدخلات أخرى من قبيل التمارين والتدريب الذهني، ومن المهم عدم ثني المصابين باكتئاب حاد عن تلقي العلاجات المناسبة التي من شأنها أن تصنع فارقاً كبيراً بالنسبة إليهم ومن حولهم”.
وفي سياق مواز لم تفاجأ الدكتورة مونكريف بردود الفعل على الدراسة، معربة عن موافقتها على أن الدراسة المشار إليها آنفاً قدمت نظرية لا تشكل على الأرجح أنباء جديدة بالنسبة إلى الأوساط الأكاديمية، بيد أنها ربما كانت موجهة إلى عامة الناس.
وبحسب الدكتورة مونكريف فإن “بعض الأطباء النفسيين قالوا علانية إنه لا ولم يتوفر دليل حقيقي [على نظرية الاكتئاب نتيجة خلل في توازن الـ ’سيروتونين‘] منذ زمن، ولكن لم يرغب أحد في تسليط الضوء على هذه المسألة أو إبرازها للجمهور طبعاً”.
وعلاوة على ذلك تبدي الدكتورة مونكريف موافقتها على أن الأدوية المضادة للاكتئاب ربما تكون مفيدة للأفراد الذين يتناولونها، سواء من طريق تهدئة الحالات العاطفية الشديدة الناجمة عن الاكتئاب أو ما يعرف بتأثير “بلاسيبو”placebo أو الدواء الوهمي [في هذه الحالة تتحسن صحة المرء بعد أن يتناول دواء لا يحمل ربما أي فائدة علاجية دوائية]، ومع ذلك نبهت إلى ضرورة أن يتسم المجتمع الطبي بتفهم أفضل للآثار المترتبة على الأدوية في حال اللجوء إلى استخدامها.
ووفق مونكريف “فمن الضروري أن يعرف الناس أننا لا ندرك حقاً التأثيرات العقلية والنفسية والسلوكية الناجمة من هذه العقاقير”، وأضافت أن هذه العقاقير تنطوي فعلاً على تأثيرات عقلية ونفسية وسلوكية، والخدر أو البرود العاطفي الذي ربما يكون أو لا يكون مفيداً، تأثير محتمل واحد من هذه التأثيرات.
وفي اعتقادي فربما لا تعود هذه الأدوية بالفائدة على معظم الناس خلال المدى الطويل، لكن بعض الأشخاص قد يرون أنها تساعدهم حينما يواجهون أزمة ما أو حالة طارئة”.
كذلك أوضحت الدكتورة مونكريف أن مضادات الاكتئاب تنطوي “بالتأكيد” على تأثيرات العلاج الوهمي، وقد أكدتها تجارب سريرية عدة.
وبالتالي أشارت إلى أننا “نعلم أن معظم الاستجابة التي تبدت لدى المشاركين في تجارب تناولت مضادات الاكتئاب كانت استجابة لدواء وهمي، وثمة بحث معين بيّن أن الأشخاص الذين يعتقدون أنهم يتناولون دواء له مفعول طبي تتحسن صحتهم بشكل أفضل كثيراً مقارنة مع من يعتقدون أنهم يأخذون دواء وهمياً، حتى لو لم يتناولوا هذا الدواء الفاعل أصلاً”.
كيف أصبحت مضادات الاكتئاب القاعدة لعلاج الاكتئاب؟
وفق الدكتورة مونكريف فقد طرحت النظرية التي تقول إن مستويات هرمون الـ “سيروتونين” مسؤولة عن الاكتئاب خلال ستينيات القرن الـ 20 حينما وضع أطباء للمرة الأولى نظرية تفيد بوجود علاقة بين مستويات الـ “سيروتونين” والاكتئاب لدى أشخاص عانوا تلك الحالة، وبقيت هذه النظرية سائدة خلال تسعينيات القرن الـ 20 حينما راحت شركات الأدوية تتوجه بإعلانات عن “مثبطات استرداد الـ ’سيروتونين‘ الانتقائية” التي تعزز مستوياته في الدماغ مباشرة إلى المستهلكين، خصوصاً في الولايات المتحدة، وكذلك سوقت الأدوية مباشرة للأطباء مما شكل عاملاً مسهماً في هيمنتها كعلاج أوليّ للاكتئاب.
وبحسب الدكتورة مونكريف “شهدت تسعينيات القرن الـ 20 ومطالع القرن الـ 21 جهداً تسويقياً ضخماً موجهاً إلى الأطباء، وآنذاك كنت تقصد عيادة الطبيب فتجد أكواباً وأقلاماً تحمل علامة مضاد الاكتئاب “بروزاك”Prozac أينما وجهت ناظريك، وأعتقد أن هذا سبب آخر وراء عدم تشكيك الأطباء في الأمر حقاً. لقد أُغرقوا بالفكرة القائلة إن هذه هي الحقيقة وهذا هو الوضع، وإذا كررت أمراً بما يكفي فسيصدقه الناس. إنها الحقيقة”.
ولكن مع ذلك، بحسب ما تنصح به “خدمة الصحة الوطنية” في المملكة المتحدة في إرشاداتها، تُستخدم “مثبطات استرداد الـ ’سيروتونين‘ الانتقائية” تحديداً لأن آثارها الجانبية قصيرة المدى، وليست شديدة خلافاً لأدوية أخرى مضادة للاكتئاب. وكذلك ترى الدكتورة مونكريف أن هذه الأدوية تبقى فاعلة في مساعدة مرضى الاكتئاب، لكنها تذكر بأنه من الواضح بناء على نتائج الدراسة أن هذه العقاقير وحدها لا يمكن أن تكون أساساً لمواجهة الاكتئاب، ففي حين أن المجتمع الطبي يوافق إلى حد كبير على هذا الرأي، ليست هذه الرسالة معروفة جيداً بين الناس.
رد فعل الناس
بعد نشر الورقة العلمية أشادت واحدة من مستخدمي “تيك توك” وتدعى ليف سبيكمان، علماً أنها تخرجت في “جامعة أكسفورد” حيث صبت اهتمامها على علم النفس وعلم الأعصاب، بالبحث في مقطع فيديو حصد ما يربو على 460 ألف مشاهدة، وذكرت سبيكمان أنها كانت خطوة إيجابية نحو مكافحة التشاؤم بين الأفراد الذين يكابدون الاكتئاب، ويعتقدون أنه محكوم عليهم بالمعاناة إلى الأبد نتيجة مرضهم.
وقد فاض قسم التعليقات في حساب ليف على ذلك الموقع بآراء أناس عاديين أعربوا عن شعورهم بالحيرة وبعض الخوف من هذه الأخبار، وسألوا إن كان ذلك يعني أن مضادات الاكتئاب التي يستخدمونها غير فاعلة، وإذا كان ينبغي عليهم مواصلة العلاج.
وفي شريط مصور لاحق أوضحت خريجة أكسفورد أن “مثبطات استرداد الـ ’سيروتونين‘ الانتقائية” وغيرها من مضادات الاكتئاب ما زالت مفيدة، ويتوجب على الناس مواصلة التعاون مع أطبائهم من أجل معالجة اكتئابهم.
وشبهت سبيكمان الأدوية بمسكنات الألم، مشيرة إلى أن الناس لا يتناولون المسكنات لأن أجسامهم تحتوي على كمية غير كافية من المسكنات، بل لأن الأدوية تخدر الألم وتسمح لهم بعيش حياتهم.
وفي سياق مماثل ثمة صانعة محتوى أخرى تدعى ريبيكا واتسون تدير قناة على “يوتيوب” وموقعاً إلكترونياً باسم “سكبشيك” Skepchick يهتمان بكشف زيف المعلومات الطبية المضللة، وقد تبنت واتسون وجهة نظر أكثر انتقاداً، غير أن تركيزها كان موجهاً بشكل أساس إلى مواقع إخبارية تتصدرها عناوين تشير إلى أن مضادات الاكتئاب لم تجد نفعاً في علاج الاكتئاب.
واستشهدت واتسون بتقرير منشور في “ديلي ميل” يبدأ بسطر “هل كان الملايين يتعاطون مضادات الاكتئاب ذات الآثار الجانبية المضرة طوال عقود من الزمن، فيما لم يتوفر دليل علمي على أنها تقدم ما تزعمه من فوائد؟ لقد شكك بعض الخبراء في ذلك منذ سنوات والآن ترك المرضى مصدومين بدراسة رائدة”.
وفي مقطع فيديو حديث على موقع “يوتيوب” شددت واتسون على أنه “للتكرار فكل ما قرأته لك خاطئ، لذا إنه غير صحيح بشكل غير معقول، غبي، ويثير الغضب. هل إنه لا دليل علمياً على أن (مضادات الاكتئاب) تفعل ما يُحكى عنها؟ [إن ذلك السؤال] خطأ”.
وأضافت واتسون، “لقد أظهرت مئات التجارب العشوائية المبنية على شواهد أن مضادات الاكتئاب تساعد المصابين بالاكتئاب بدرجة تفوق كثيراً الدواء الوهمي، ولا يدحض أي “بحث جديد” هذه الفكرة، ولا أي بحث”.
والحال أنه كثيراً ما استهزأ الخبراء بتقارير تغطي مسائل صحية وعلمية معقدة بسبب تقديمها معلومات خاطئة للجمهور وتضليله، وذلك من طريق سوء فهم الحقائق أو إضافة طابع الإثارة إليها بغية جذب القراء.
وفي الواقع تؤكد الدكتورة مونكريف أن السبب الذي دفعها إلى إنجاز هذا العمل تحديداً يتمثل في تسليط الضوء على حقيقة أن المعلومات التي يعرفها الجمهور عن الاكتئاب والمعلومات الموجودة في جعبة الخبراء، ليست متجانسة، وتصحيح هذه الحقيقة من طريق النهوض بمزيد من الدراسات لا بد من أن يشكل أولوية بالنسبة إلى الإعلاميين والباحثين على حد سواء.