آه يا ولـــــدي..!!

معين برس | دوت كوم:

آه يا ولدي، ماذا عساي أن أقول و أشرح لكَ و أنا أقفُ كلَ يوم على نافذةِ بيتنا المطلة على الشارع الذي أنتظرُ أن تأتيني منه، أقفُ ممسكةً بآخرِ رسالةٍ أرسلتَها لي من سُوحِ المعارك التي تخوضُها من أجلِ وطنكَ ، قطعةُ الورقِ هذه مُحَمَلَة برائحة الموت و التضحية و مليئة بتراب المعركة، على حافةِ الورقة قطرةٌ من الدم، أرجو ألا تكون لكَ فمنذُ أن شاهدتُها و أنا أدعو الله بأن يكونَ جرحٌ صغيرٌ أصابَ إبهامكَ و أنتَ تضغطُ به على زنادِ السلاح.

و الآن هاهو الوطن قد عاد إلى أحضان شعبه، فلماذا لا تعودُ أنتَ إلى حضن أُمكَ يا فلذة كبدها، ألا تشتاقُ لأمكَ يا ولد .

هذه الورقة ستنتهي و دموعي التي تنهمر في كل مرة أقرأُ فيها هذه الرسالة ستمحي الكلمات و لا أدري هل سأستطيع قرائتُها في المرة القادمة أم إنكَ ستأتي و تنقذُ والدتُكَ من موتاتِها التي عانتها في غيابكَ أم إن الموت سيأخُذُني إليكَ شوقًا مني إليكَ..

أتعرفُ يا ولدي أن الأضواء باهتة جدًا في غيابكَ ، ضوءُ غرفتِكَ و عمودُ الإنارةِ الذي يقفُ عند باب منزلنا و أضواءُ المدينة كلها و حتى بياض القمر لم يكن مبهجًا منذ رحيلكَ.

لن أخبرُكَ عن والدكَ، لأنني لا أدري ما أقولُ فيه فهل هو يكابرُ في حزنه أم إنهُ لم يعد يشعر بشيء حيال أي شيء بعدكَ ، فمُذ حزمتَ أمتعتَكَ و غادرتَ منزلنا و هو لا يخرجُ منهُ و لا يقبل أن يلتقي بأحد فيه أو خارجه، شيء ما في والدكَ أخذتَهُ معك و رحلت.

أما أنا فلازلتُ أرتدي وشاحي الذي تحبهُ أنتَ و ثيابي التي إشتريتَها لي ذات عيد، لم أستطع أن أخلعُها أو أن أرتدي ثياب الحداد على غيابكَ ، أخافُ أن يُسمى ذلك إعترافٌ بموتِكَ و أنا لا أريدُكَ أن تموت الآن، نحن نريدُ أن نراكَ تحملُ أطفالكَ، لازلتَ صغيرًا جدًا يا ولدي على شيء إسمه الرحيل.

جاراتنا العزيزات يدَّعِينَ بأنني و والدكَ أصابنا الجنون في اليوم الذي عاد فيه من المعركة كل أبناءِ القرية ما عداكَ، ملابسي الملونة و لحية والدكَ الكثيفة و شعرهُ الأشعث و هدوءُ منزلنا في النهار و الضجة التي يُحدِثُها نحيبي و ويلاتُ أبيكَ و غيرُها من الأدلة التي إستندنَ عليها ليتهموننا بالجنون يا ولدي، بالله عليكَ قُل لي أتقبلُ هذا على والِداكَ ، أتقبلُ أن ينعتنا أحد بالخَبَل…

هم لا يعلمون ما معنى أن يفقد الإنسان روحه، والدكَ و أنا يا ولدي أجسادٌ بلا روح، و كأننا أشباح نعيش على ذكراكَ و أمنيةُ لُقياكَ و كذبةُ أنكَ مُتَّ في الحرب…

10:10 a.m.
4 August 2020

* من حائط الكاتبة ترتيل “بائعة الورد” في فيسبوك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى