“بكارة” .. حكاية شاب تونسي دمّرت ليلة الدخلة حياته
“بكارة” .. حكاية شاب تونسي دمّرت ليلة الدخلة حياته
#معين_برس | كتب أمين الزاوي *
الكثير من العادات البالية ما زالت تنخر الذوات في المجتمعات العربية، عادات تقف كحواجز نفسية ومادية أمام الكثيرين، ويصل تأثيرها إلى أنها قد تدمر حيواتهم الفردية، وإن ادعت أغلب المجتمعات العربية مثل المجتمع التونسي التقدمية التي ترفعها النخبة المدينية شعارا لها، فإن هذه التقدمية يقف حضورها في مستوى اللغة لا الواقع، حيث ما زال الواقع رازحا تحت ثقل إرث متجذر من التقاليد التالدة.
“…الكثير من سكان الدوّار والدواوير المجاورة، يزعمون أن مصطفى الذي اختاره البشير ‘وزيرا’ له ليلة الدخلة على زوجته مبروكة هو الذي فعل لها ما يفعله العريس لعروسه في هذه الليلة”. هذه هي الجملة التي تشكل رحم رواية “بكارة” للروائي التونسي الحبيب
السالمي، حول هذه العبارة تأسس خطاب الرواية نفسيا واجتماعيا وسياسيا، منها يتصاعد ويتوالد السرد بشهية كبيرة. قد يبتعد السرد كثيرا أو قليلا عنها ليعود إليها مصابا بالتروما.
رواية “بكارة”، الصادرة عن منشورات دار الآداب، رواية مثيرة وجذابة ومع ذلك لم يُحتفَل بها بما تستحقه من احتفاء نقدي، إنها نص سردي يستعيد تونس المنكسرة من خلال الفرد المقهور سيكولوجيا، وكيف يجر الفرد جرحه الدامي الداخلي المزمن، هي رواية الفرد في حواره مع نفسه التي تواجه شقاء تآمر من قبل الجميع الذين يتآمرون دون إدراك بأنهم متآمرون عليه وعلى أنفسهم أيضا. رواية جرح لا يندمل كمرض “الحكة” كلما حككته يزداد تهيجا وتزداد الرغبة شهية في “الحكة”.
تروي “بكارة” حكاية شاب تونسي قروي بسيط هو البشير مع ليلة دخلته، ليلة عرسه، حيث يستعصي عليه القيام بما يجب القيام به، ويعتقد وهما بأن “وزيره” مصطفى الذي اصطفاه من جميع شباب الدوّار لمساعدته في ليلة الدخلة هذه هو من قام بما هو مخول عمله للعريس، و“الوزير” هو الشخص الذي يختاره العريس من بين أصدقائه كي يساعده في اللحظات الحميمة مع عروسه إذا ما تطلب الأمر مشورة ما، لكن في حالة البشير سيسكنه هاجس يؤرق حياته كلها وهو أن من تولى أمر ليلة الدخلة هو “وزيره” مصطفى نيابة عنه.
بين الدعاية والشك وتأنيب الضمير وثقافة الحشمة يعيش البشير حالة من التروما التي ستحول حياته إلى جحيم، بينه وبين نفسه، مع زوجته، مع الجيران، مع أفراد عائلته…
كل الرواية من أولها إلى آخرها تجر جرح ليلة الدخلة، حيث يعتقد العريس بأن وزيره إن لم يكن فعلها فقد شاهد جزءا من العضو الحميم في جسد زوجته، ومن هنا تتشكل كرة الثلج الداخلية، تعذب البشير عذابا نفسيا يدفعه تارة إلى التفكير في قتل وزيره أو الانتقام الجنسي أو الانتحار أو الاغتصاب كي يريح ضميره.
رواية “بكارة” رواية ذكية، تأسست على خطاب حول التراث التقليدي لتونس في منتصف القرن الماضي صعودا إلى أيام الثورة ضد زين العابدين بن علي وما بعدها بقليل، ذكية أيضا لأنها جعلت مركزها “البكارة” وهي التي يقوم عليها مفهوم الشرف عند المسلمين وتختصر فيها الكرامة وعليها تقوم الحروب والفتن ومنها تنطلق الحياة وفيها تكمن المتعة… لكن ومع ذلك لم يتحول الخطاب الروائي إلى ابتذال أو استهلاك بل حافظ على شعريته، مستثمرا في فلسفة السخرية المرّة، مقدما نقدا لمستوى الوعي الاجتماعي والسياسي في القرى التونسية الداخلية عشية الثورة. تتشكل الرواية برمتها حول الخطاب النفسي المأزوم، أي التروما الجنسية، يطرح حال القرية التونسية وما خفي فيها عن النخب المدينية المتشدقة بالحداثة، وهو العطب السوسيو-سياسي الذي يمثل حاجزا في إحداث نقلة انقلابية.
تقرأ رواية “بكارة” للحبيب السالمي، بعيدا عن أي تبشير أيديولوجي، الانتهازية السياسية التي رافقت الثورة وكيف أن الذين كانوا بالأمس حاشية النظام تحولوا إلى خصم له، وركبوا قطار الثورة، كل ذلك من خلال تروما ليلة الدخلة.
تقدم الرواية على لسان بطلها البشير ومن يحيطون به كيف أن العالم الريفي قد تغير في الخطاب لا في الواقع، يتبدل “الإنشاء” فيلبس لبوس الثورة دون قطيعة في السلوك الفردي أو الجمعي، الواقع لا يتحرك إلا في اللغة، السياسة تغير جلدها كالأفعى ولكنها تظل هي ذاتها التي لسعت و تلسع الريفيين الفقراء.
في “بكارة” المرأة هي اللاعب وهي الملعوب بها، هي أصل الحكاية وهي أيضا حل عقدة الحكاية، الجنس مسألة أساسية ومركزية لكن العِرض أكبر من الحب. وعلى المستوى الجمالي تقوم الرواية على التفاصيل الصغيرة في القرية، تلك التفاصيل التي يسكن فيها الشيطان، حيث تتوالى اليوميات باللقاءات وجلسات الشاي، والسوق الشعبي الأسبوعي، ورعي الأغنام، وخصومات الأسر، وفي هذه التفاصيل يتشكل متن الرواية في حلمها وخوفها.
تُقرأ رواية “بكارة” للحبيب السالمي بشهية وفي جلسة واحدة، بالكثير من الألم ولكن أيضا بالكثير من الضحك من خلال أسلوب ساخر مجروح وجارح، فيه تكمن التروما الريفية الفردية والجماعية.
* كاتب وأكاديمي من الجزائر