المهري -يا حب خبّيتك وداريت الأشواق

معين برس- سامي الشاطبي:

في غربة الأشواق ودروب الأحلام ..
ليت الهوى وأشواق قلبي تمرّك.

لماذا تتسلل الكلمات السهلة بسهولة إلى القلب لتحدث أثرها، بينما تبدو الكلمات المزخرفة والمزركشة مثل المرأة الممكيجة، بمجرد إزالة الماكياج تبدو عارية بلا أثر ولا تأثير؟

في هذه النقطة، أبدو متحيزًا أكثر للكلمات السهلة السلسلة والمعبرة، بل متعصبًا لها وللجمال الكامن في بساطتها وعمقها.. يرجع ذلك إلى أن إنتاج مثل هذه الكلمات يتطلب كاتبًا محترفًا قادرًا على التأثير بكلمات مفهومة وطيعة.. جاذبة لكل قارئ، لكن إنتاج مثلها يتطلب خبرة وممارسة طويلة.. فمن السهل تزيين الكلمات بالرتوش والديكورات والمعاني والمصطلحات الغريبة، لكن من الصعب كتابتها دون رتوش.

في هذا الصدد، نقف أمام قصيدة “يا حب خبّيتك وداريت الأشواق” للشاعر عيسى بن سالمين المهري. تُطرح هذه القصيدة مسائل الحب /والصبر/التضحية/الألم/المعاناة/ التسليم –التنازل- ، باستخدام لغة سهلة مفهومة تُخفي في طيّاتها عمقًا وتعبيرًا لا مثيل لهما.. تثير مشاعر القارئ وتشركه في التجربة العاطفية.

لو طرحت تلك المسائل لدى أصحاب الرتوش، لاحتاجوا إلى مجلدات ليوصلوا الفكرة نفسها.. أمّا في هذه القصيدة، فتُعبّر تلك الكلمات العميقة، التي تخترق القلب وتلامس المشاعر، عن تلك المسائل ببساطة وسلاسة، دون الحاجة إلى المزيد من التوضيح فهي في لغتها تتبع المباشرة والوضوح وفي بنيتها السردية تتبع خطية بسيطة، حيث تبدأ بوصف مشاعر العاشق تجاه حبيبته، ثمّ تنتقل إلى وصف معاناته من الفراق، ثمّ تنتهي بالتعبير عن شعوره بالإحباط وفقدان الأمل.

تُعبّر القصيدة عن حب عميق، لم يبوح به وبالمقدار تحداه متحملا اثار صبره وتحملّه دون مقابل، حيث ظلّ يمنح حبيبته من عاطفته سنين عمره دون أن ينال ما يرجوه.

صارت سنيني منك في يد فحّام..
ما فادها كف الندم والتفرّك

نلاحظ الدلالات الرمزية للحب والشوق والألم والمعاناة والأصنام. فالحب يمثل حبيبة العاشق في القصيدة، ذلك الحب يقاوم من اجل اخفاءه.. والشوق يمثل مشاعر الحنين والرغبة في اللقاء. بينما يمثل الألم معاناة العاشق من الفراق والحرمان. أما الأصنام، فهي تمثل العوائق التي تحول دون وصول العاشق إلى حبيبته.

في الجانب الخير يقف الحب والامل والشوق كمفرد وفي جانب الشر تقف الاصنام والتي تمثل العوائق التي تحول دون وصول العاشق إلى حبيبته، سواء كانت هذه العوائق خارجية أو داخلية كمجموعة وليس كمفرد ..في سؤال يطرح نفسه ..هل يمكن للأصنام أن تتغلب على الحب والأمل والشوق؟

تعالوا لنقرا مسار القصيدة ونستخرج جوانب الخير والشر
يجسد مطلع القصيدة احد مفاهيم الخير وهو مفهوم الحب والذي يُخفيه العاشق..

ياحب خبّيتك وداريت الاشواق
لولا حنين الشوق ماباح سرّك

مع الإشارة إلى أن المطلع يُعد بمثابة كورال القصيدة التي يجري التحضير لغنائها حاليًا. والكورال، لمن لا يعرفه، هو شطر القصيدة الذي يتكرر عند غنائها. يُمثل الكورال كائنًا حيًا ينمو بتكراره، مما يجعله عنصرًا داعمًا للقصيدة.

يجسد الشطر التالي جانبا اخر من جوانب الخير فهو يُظهر صبره العظيم على بعد حبيبته وتضحيته بمشاعره من أجل إرضائها وإسعادها.

عشتك سنين العمر صابر ومنضام
تاخذ من أيامي وتبني مقرّك

يجسد الشطر التالي جانبا اخر من جوانب الخير والمتمثل في رمزيته بالألم والمعاناة..

عشتك حزن عبر الليالي والايّام
ادمنت قربي والمواجع تسرّك

وبالتتابع يجسد الشطر التالي جانب اخر من جوانب الخير والمتمثل في رمزيته بالتنازل على الاصطدام..

واثرك سراب اللال وخيوط الاوهام
قفّيت بسنيني كفى الله شرّك

اشير هنا الى استخدا الشاعر للصور الشعرية.. العديد من الصور الشعرية المُعبّرة، مثل تشبيهها بالسراب، وتشبيه سنينه بيد الفحّام، وتشبيه حياته بلوحة حزينة.

في جانب الشر يقف الصنم وحيدا في مواجهة الحب والامل والمعاناة والشوق..

مثل الامل لي صار في يد الاصنام
ما حقّقه كثر الدمع والتبّرك

النقطة الجوهرية هنا ان الصنم في شطر البيت ليس مفردا واحدا بل عدة اصنام قادرة على التغلب على جوانب الخير والامل والشوق..

في البناء الموسيقي تُستخدم القصيدة وزنًا شعريًا معروفًا باسم “البحر الخفيف” وهو من اكثر الأوزان العربية انتشارًا في الشعر الغنائي.

صارت حياتي بين عاتب ولوّام
وأشواق ماتت بين بحرك وبرّك
اضحك واخبّي دمعتي خلف الألام
كلما طرالي الشوق جرحي تحرّك

ويلاحظ جليا بان القصيدة تتبع قافية موحدة هي حرف “الكاف” في آخر كلّ بيت..

قبل الختام احب ان انوه الى خاصيتي التكرار والتوازي التي ينهل من معينها في القصيدة بشكل فعّال وذلك لتأكيد المعنى.. ففي التكرار..

لوحه حزينه جسدت فن رسّام
واحلام منثوره على اعتاب برّك

وفي التوازي والقصد هنا أبيات متوازية في المعنى والبناء..

صارت حياتي بين عاتب ولوّام
وأشواق ماتت بين بحرك وبرّك

ولتتمة بقية:

تُعدّ قصيدة “يا حب خبّيتك وداريت الأشواق” للشاعر عيسى بن سالمين المهري من أجمل قصائد الغزل العذري التي تُعبّر قدرة الحب على الانتصار بسلاح الحب.
تتميز القصيدة بلغة سهلة وأسلوب مؤثر، وبناء موسيقي متصاعد، وتنقلات مدروسة للصور والدلالات الرمزية.

نص القصيدة:

ياحب خبّيتك وداريت الاشواق
لولا حنين الشوق ماباح سرّك

عشتك سنين العمر صابر ومنضام
تاخذ من أيامي وتبني مقرّك

عشتك حزن عبر الليالي والايّام
ادمنت قربي والمواجع تسرّك

واثرك سراب اللال وخيوط الاوهام
قفّيت بسنيني كفى الله شرّك

مثل الامل لي صار في يد الاصنام
ما حقّقه كثر الدمع والتبّرك

صارت سنيني منك في يد فحّام
ما فادها كف الندم والتفرّك

لوحه حزينه جسدت فن رسّام
واحلام منثوره على اعتاب برّك

صارت حياتي بين عاتب ولوّام
وأشواق ماتت بين بحرك وبرّك

اضحك واخبّي دمعتي خلف الألام
كلما طرالي الشوق جرحي تحرّك

في غربة الأشواق ودروب الأحلام
ليت الهوى وأشواق قلبي تمرّك

وتعود شمعات الليالي والأعوام
والشوق يوفي والليالي تبرّك

عيسى بن سالمين المهري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى