قصة قصيرة | سلوى وسقف الدكان

آزال الصباري *

الحياة هنا تشبه الجري في الآلة المخصصة للجري، أما أن تتوقف فجأة وتقع أو تستمر في الجري، يمكنك أن تتخيل معي كيف تكون الحياة في اليمن، لا شيء يتغير، الأسوأ دائما ينتظرك، والأقسى دون شك يقف في طريقك.

في اليمن لم يكن كلُّ شيء على مايرام، قبل أن تُدق طبول الحرب ، وتشتعل نيران النزاع، لكنك كنتُ تستطيع أن تحصرَ معاناة الناس في مناطق معينة أو فئات معروفة، تستطيع أن تشير إليها بالبنان، على سبيل المثال كانت المعاناة الأشد هناك في القرى، فسكانها يفترقون لخدمات الطرق المعبدة، الكهرباء، الماء والمراكز الصحية، طيلة تلك السنوات كانوا يعانون مشقة السفر للعلاج والدراسة، فتجد رجال تلك القرى يكدون في الحقول بأدواتهم البدائية، والنساء يحطبن من أعالي الجبال ، ويحملن إسطوانات المياة فوق رؤوسهن ، والأطفال يمارسون ألعابهم فيتزحلقون بين أكوام الأتربة الممزوجة بمخلفات الحيوانات ، يتراشقون بالحصا وعيدان الشجر، يقضون سنين طفولتهم في العراء باستثناء أوقات الدراسة في فصولهم الصغيرة، التي قد تكون غالبا حيطان مجردة من النوافذ، تتوسطها سبوارت مربعة في إحدى الزوايا، الآن تغير الحال،لكنه إلى الأسوأ، أشتعلت الحرب، إنعدم البنزين، ارتفعت الأسعار، تفاقمت المأساة وأصبحوا يتكبدون مآسٍ أخرى أكثر شقاء وبؤس.

أما في زمن الحرب فبات من الصعب تحديد مكان محدد للمعاناة ولا فئة بعينها لتكون نموذجا للشقا ومثالا لمعناة الإنسان، لم يكن سكان القرى النموذج الوحيد، في كل مكان ستجد أن الحياة قد سُلبت كلَّ ملامحها الآدمية، وفي كلِّ الأوقات ستستمع لأنين الناس في المدن، في القرى من خلف حيطان البيوت، بالقرب من الحانات الصغيرة، الأرصفة تتوجع والبيوت تضيق والحواري ترتجف، والجميع يفكر في سد رمق الجوع، الجميع متعبون من الجري المستمر، منهكون من الوقوف في طوابير الماء والوقود إنها أيام حرب، لايمكن لأ حد أن يفوز بوقتٍ للتفكير، أو الاسترخاء، أيمكن لجائع أن يسترخي ويفكر.

أسكنُ أنا في إحدى حوار العاصمة، لا أريدك أن ترسم صورة للعاصمة وفقا للأسم الذي أسلفته هنا، لذلك سأقول، أني أسكن في صنعاء، هذه المدينة التي بَهُتَتْ فيها أضواءُ المدنيَّة، وتجعدتْ ملامحها الجميلة ،وغدت مثلها مثل القرى ، مُجهَدةً وجهِدة، متعَبَةً ومتعِبة، نهارها بائسٌ، وليلها كئيب مظلم، صنعاء مثل أدنى قرية في أقصى البلاد، غير أن القرى تزينها الأشجار وتؤنسها الطيور، ويجهل طريقها هوامير السياسة ولصوصها، في صنعاء المدينة العاصمة المهترئة ، أفواه الحفر تفترس قدميك كلما دخلتَ حواريها سيرا، وتقوسات المطبات تنطح جسدك في جوانب السيارة إذا ما دخلتها راكبا، منذ أربع سنوات استأجرت بيتا صغيرا، بعد أن رفع المؤجر السابق أجرة البيت إلى مائة ألف ، دخلُ زوجي الذي يأتيه من عمله في المغسلة لا يتجاوز مائة ألف، بيتي الآن غرفتين إحداهما لا تتجاوز الأربعة الأمتار طولا وعرضا، والأخرى أكبر منها فقط بمترين وحيدين عرضا، فيها حمام أيضا يسمح لك بالاغتسال واقفا ، بالكاد يتسع لتلتوي فيه وتضع مؤخرتك عند قضاء الحاجة، يقابله مطبخ صغير لا يسمح لاثنين أن يتقاسما أرضيته في الوقت نفسه، أتضجر منه، لا سيما حين أعد خمسين ألفا في يد المؤجر ثمنا لثلاثين يوما أحشو فيها جسدي وجسد زوجي وأبويه وصغاري الثلاثة، لا شيء يصبِّرُني غير جارتي التي تسكن في غرفة (دكان) أسفل العمارة المقابلة لنافذتي.

قبل معرفتي المباشرة بها كنت أفكر- كلما لمحت دكانها الصغير- كيف تحتمل هذه المرأة الحياة بين أربعة حيطان لا تكاد تغادرها، هناك كثير من الأسر تسكن الدكاكين، لكن جارتي كانت الأقرب والأسهل لفضول عيني.

تسكن جارتي سلوى في الدكان منذ عام ٢٠١٦، كان قدومها من تعز في تلك السنة، هكذا أخبرتني حين سألتها، أسألها كلما ألتقيت بها بالقرب من بائع الخضروات، لم أعد أفضل الزيارات ولا حتى المناسبات التي تجتمع فيها النساء، أصبحتُ متذمرة منذ فترة، أخبرتني سلوى أن زوجها أكترى قبل هذا الدكان شقة صغيرة، إلا أنه- مثل غيره- لم يستطع دفع ستين ألفا كل شهر، فترك الشقة وأستأجر هذا الدكان، قالت أن زوجها يدفع ثلاثون ألفا أجرة الدكان، ذلك أمر جيد بالنسبة لرجل يعول زوجة وثلاثة أطفال لايزال أصغرهم رضيعا.

سلوى تنحدر من عائلة كانت تمتلك عقارات في تعز، قبل أن تدهس الحرب كل ذلك، كان أبوها يعينها في كثير من أمور بيتها، زوجها أيضا كان يعمل في شركة توتال، هكذا قالت لي، هي الآن لا تناسبها هذه الحياة، زوج سلوى مهندس نفط، تخرج من سوريا وهو الآن يعمل أستاذا لمادة الرياضيات في إحدى المدارس الخاصة ،يتقاضى ستين ألفا مقابل عمله معلما، تحاول سلوى أن تبقى صامدة أمام كل هذا الانحدار والتحول، وتعزي نفسها بأمل أن تتوقف الحرب وتعود المياة لمجاريها.

لاتزال جارتي تقاوم حياة الدكان، لم تتأقلم بعد، لكنها تكابر، في كُلِّ صباح قبل وقت المدرسة يجر طفليها إسطوانات الماء من الخزان الرابض نهاية الحارة، يصفُّون تلك الإسطوانات بجانب الدكان، يحملون حقائبهم المهرتئة ويهرعون سعداء إلى المدرسة الحكومية، لا شيء يجعلهم يتأفأفون من فصول الدارسة أغلب المعلمون لا يحضرون، الواجبات قليلة، وأوقات الفسحة طويلة… تتتوالى سلوى الإسطوانات تضع بعضهن في الحمام والبعض في زاوية من الغرفة، وتبقي انتنين تحت أشعة الشمس لتحضى بماء دافئ للحاجة، في يوم الجمعة يجمع الصغار إسطوانات الماء تُصَفُّ الكثير منها في باب الدكان تحت أشعةالشمس للتدفئة، يستحم الجميع بالمياة الدافئة، وإذا غابت الشمس يكتفون بمسح رؤوسهم ووجيههم حتى تشرق الشمس في يوم آخر، لا يمكن لسلوى أن تستخدم الغاز لتدفئة الماء، إسطوانة غاز واحدة لا تسمح باستخدامها لغير الطهي.

الدكانُ غرفةٌ صغيرةٌ مربعة يتوسطها حمام وهو مساحة مستطيلة الشكل ضيقة الأطراف ، لا سقف لها ولا باب، غير قطعة قماش تغطي عن العيون تفاصيل من يدخله
بعد أن يذهب كل في سبيله طفليها وأبيهم
تضع سلوى الفراش واحدا فوق الآخر في جانب الغرفة المحاذي للباب ، ثم تصف اللحفات والوسائد فوق بعضها، تكنسُ الأرضية، في الجهة المقابلة للباب قطعتين من البردين ملتحمتين متجاورتين تعتليهما موقد غاز بعينين صغيريتن ، وبجانب الموقد عُلب البهارت ، علبة الملح والسكر، أواني معدنية، أكواب زجاجية، علبة كبريت، قنينة زيت، إنه مطبخ سلوى.

تجلس سلوى فوق علبة طيحينة قديمة ، وتشرِّع بإعداد طبيخ الخضورات في قدر ٍ، وأرز أبيض في القدر الآخر، تنتهي من ذلك، تلقي رأسها الثقيل بالهموم فوق باطن كفها، تهيم في أرجاء الغرفة تتنقل في الجهات الثلاث حمام، فراش، إسطوانات ماء، خزانة ملابس ، تجد نفسها هناك في بيتها في تعز تتنقل بين حجرة النوم بسريرها وتسريحته التي باعتها لصاحب السيارة التي نقلتهم من تعز إلى صنعاء مقابل إجرة الركوب، تزور مطبخها الذي أنقفت سنتين من عمرها وهي تشتري أثاثه قطعة قطعة، ثم في غضون ساعة تركته في تعز بحوزة صديقتها التي تركت تعز هي الأخرى بعد نجت وزوجها من أنفجار استهدف بيتهم، لا تنسى سلوى حديقتها الصغيرة خلف البيت تتنفس رائحة الأزهار والمشاقر، لم تنس عبقها، لايزال يتسلل إلى روحها، لكن سرعان ما يتوقف ذلك الحنين بفعل رائحة الدكان المكبوتة والنتنة.

تتنهي سلوى من إعداد الغداء ، تغرس جسدها في عبائتها السوداء ،تغلق الدكان، تسترق الوقت خِفية، تلقي بكيس القمامة في البرميل، تشتري مسحوقا للغسيل، ثم تعود مرة في نفس المكان (المطبخ) تجمع ملابس الغسيل، تضع مؤخرتها على الكرسي-علبة الطحينية- وتبدأ بشطف الثياب، تصب الماء المغبر في الحمام، ثم تنشر الملابس في خيط يتدلى أعلى الحمام، تنتهي من كل ذلك، تلقي بجثتها وسط الغرفة لتتطلع في السقف، لا شيء بعد الحيطان الأربعة سوى السقف، لا شيء غير سقفٍ الوحيد.

في المساء تَمدُّ الأفرشة جوار بعضها في وسط الغرفة، يستلقي سلوى وزوجها وصغارهم الثلاثة متجوارين ، تغطي أجسادهم باللحفات، يسيقض الصغار على شجار أمهم وأبيهم تارة وعلى عناقهم تارة أخرى، تنهرهم الأم لينامون مجددا، يتوقف كل شيء، وتتعلق عيناها في السقف، لاشيء غير السقف.

لا يمكن لسلوى أن تفكر ببقية حقوق الأطفال، تلك الحقوق التي تتحدث عنها الإنسانية، والتي لا يتمتع بها أطفالها، يشغلها فقط أنها تنام مع زوجها وصغارها في نفس الفراش، هي قلقة على أفكار صغارها، أو أنها خجلة منهم، هي لا تعرف تماما ما الذي يقلقها.))

  • من حائط الكاتبة في فيسبوك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى