قراءة في كتاب “الكهنة صفحات من التاريخ الأسود للكهنوت الإمامي في اليمن”
فهد سلطان
فور صدور كتاب “الكهنة” د. لمياء الكندي . قبل أيام، كنت استفسر في كيفية الحصول على نسخة ورقية أو حتى الكترونية منه.
كان الأستاذ القدير أمين الشفق قد تساءل لماذا لم أتناول الكتاب؟ وكعادتي، أحب أن أكتب، لكن بعد القراءة والاطلاع.
أعرف الدكتورة لمياء جيّدا، أعرف كتاباتها في الشأن اليمني من عام ونصف مذ قرأت لها أول مقالة، وأنا أنشر لها في الموقع الذي أشرف عليه. كنت في البداية أعتقد أنه اسم مستعار حتى تأكد لي خطأ ذلك، وأنها كاتبة لها اهتمام بالتاريخ اليمني والهاشمي الإمامي بشكل خاص.
وصلني نسخة من الكتاب، فعكفت على قراءته كاملا فور وصوله، وبعض العناوين كنت أعيد قراءتها لمرتين. وبالتالي، إشادتي بهذا الكتاب الرائع من زاويتين، الأولى: أنها المرة الأولى التي تكتب امرأة بهذا الحماس وبهذا الإلمام الرهيب عن تاريخ الإمامة “الهاشمية في اليمن”، والثانية: لغة الكتاب وطريقة عرض الفكرة تختلف تماما عن كثير من الكتابات التي تناولت هذا الموضوع بالذات، سأفصل قليلا في الزاوية الثانية.
لن أفسد على القارئ متعة القراءة للكتاب في ثنايا هذه السطور، لكني سأتناول فتاتا سريعا، يؤكد أهمية هذا الكتاب ويضعه في مصاف الكتب المهمة، التي تناولت الإمامة وتاريخها المظلم في اليمن.
كنت أقول -ولا زلت- إن أغلب الكتابات حول الإمامة في اليمن لا تزال منحصرة في التاريخ الجاف فقط، ولم نخض حتى الآن في قراءة سيكولوجية للإمامة {الهاشمي الفرد بشكل خاص}، بحيث نكشف عن العاطفة والسلوك والإدراك وصولا إلى العلاقات بين الأشخاص. أُعدُّ هذه القضية واحدة من أهم نقاط الضعف في الكتابات التي تناولت الإمامة.
نعرف جيّدا تاريخ الإمامة، لكن تفسير هذه الشخصية “الهاشمية” لا زال غائبا. كما أن الدراسات الاجتماعية عن تاريخ هذه السلالة شحيحة في هذا الجانب، وعلم النفس لا يزال خارج السياق في أغلب الدراسات المتوفرة.
لندخل إلى صلب كتاب الكندي، لنأخذ هذا المثال: فعندما أرخت لابن الفضل المولود في القرن التاسع، فهي تبرئه من ادعاء النبّوة التي روّج لها كهنة آل البيت من الهاشمين، وترجع استحالة ذلك إلى اليمنيين أنفسهم؛ إذ لا يمكن أن يقبلوا هذه الفكرة، فكيف يكون مسلما موحّدا ثم يدعي النبوية دون أن يتأثر الاتباع، وإنما يزيدون!، وهي هنا تهدم التهمة بنقاش عقلي بناءً على تدين اليمنيين الذين عرفوا بالحماس الشديد في الدفاع عن الدين والذود عنه ليس داخل اليمن، بل في خارجه، بل إن اليمنيين كانوا جنودا أشداء في حروب الردة، وساهموا ببسالة في إسقاط فارس والروم.
وفي لفتة أخرى، تقول الكندي: إن عدم استقرار حكم الإمامة -خلال تواجدها في اليمن لأكثر من 800 عام- دليل واضح أن المقاومة اليمنية كانت مستمرة لهذا المشروع البغيض، على عكس الذين يروّجون -ولو بغير قصد- أن الإمامة حكمت اليمن كل هذه المدة، فهي ترجئ الفشل إلى رفض اليمنيين ومقاومتهم لهذا المشروع الدخيل، وأن إيمان بعض القبائل كان لاعتبارات كثيرة مرتبطة في أغلبها بالحيل والخديعة واستغلال عاطفة اليمنيين الجياشة للدين والنفوذ من خلال هذا الثقب، للسير نحو أهدافهم الماكرة.
وحين يذكر بعض المؤرّخين من وصول الكاهن أحمد بن يحيى (نجل الكاهن المؤسس الرسي) إلى عدن في ثمانين ألف مقاتل تشكك “الكاتبة” في هذه الرواية، وتربطها بمنطق عقلي، فتقول: كيف يستطيع أن يصل “الكاهن” إلى عدن وقد فشل في دخول صنعاء والاستقرار بها، كما أن الوصول إلى عدن يعني سيطرته على المناطق الوسطى، وهذا ما لم يحدث، وتربط تلك الأحداث بشكل ينبئ عن وعي وقراءة فاحصة للتاريخ.
وهناك لفتة أخرى في غاية الذكاء، حين تقرر الكندي أن استمرار الصراع بين اليمنيين وبين الكهنة “الهاشميين السلاليين” من جهة وصراع الكهنة فيما بينهم في الحرب على السلطة من جهة أخرى، لقد تسلل إلى وعي اليمنيين -مع الأسف – الزهد بالسلطة، وأوقفوها على الهاشميين فقط، وبات ذلك يترسّخ في الذهنية اليمنية، وهذا أخطر ما وصلت إليه هذه الفكرة.
وعلى إثر ذلك غاب المشروع الوطني الجامع، وبالتالي لم تقم دولة تعبّر عن اليمنيين خلال ثمانية قرون من تسلل الإمامة {صـ 54}.
إن الصراع اليوم على محاولة إعادة الأمر إلى نصابه مع أحفاد الإمامة ليس مرتبطا بالوضع العسكري، بل بالذهنية التي تعاقب عليها أجيال، وبالتالي تأتي مثل هذه الكتب في إعادة رسم المشهد من جديد، وتنقية الوعي ممّا علق به من أوهام.
أيضا، ربط الإمامة ومشروعها الرث والبغيض بمقام النبي -عليه الصلاة والسلام- وربط هذا المشروع به ربطا وثيقا، انطلى على بعض اليمنيين، لكن الوقائع على الأرض كانت تدفع اليمني إلى رفض هذه الفكرة وشخوصها مع إيمانه بسلامة الفكرة، لكن الكندي هنا وبعض الكتابات الجديدة تعيد رسم المشهد من جديد من خلال ضرب أصل الفكرة ذاتها، ففكرة “آل البيت” من أولها إلى آخرها ليست سوى خرافة وواحدة من الأباطيل والأكاذيب في البحث عن السلطة والثروة، واستخدام الدين بصورة رخيصة من أجل هذه الغاية الدنيئة.
الكتاب جميل، وهذه لفتات بسيطة، انتقيتها من الكتاب الذي أعدّه من الكُتب المهمّة، وأن المرأة اليمنية باتت اليوم تدخل معركة مواجهة هذه الكارثة، فالمعركة الفكرية هي معركة مشتركة، وهي أهم مشاريع المستقبل، وأن التنظير الرائع والكبير والواسع للإمامة هو مفتاح الدخول نحو المستقبل في كشف هذه الخرافة، وهدمها من أساسها.