التراث هوية وفن
معين برس | فهمي الصبري *
للتراث اليمني لونه الفريد ، وجماله البديع ، وإنسانه البارع ، وزخارفه العجيبة ، وصناعته الرهيبة…!
لقد كان لهاجرٍ في التراثِ “حكاية”؛ وليست كأي حكاية…!
“هاجر” : في المستوى الثالث إعلام ، فنانة تعشقُ الفن كما تعشقُ الأرض؛ ولها من فنها آيات…!
ففي الوقت الذي نفتقرُ لمن “يُذَكِّر” بفنانو الأرض / أيوب طارش وعبدالباسط عبسي؛ وحدها حنجرة هاجر نعمان استطاعت ذلك ، بعد أن تجرعوا الألم “ألوانًا” دون أن يلتفت إليهم أحد من رعاة الأرض وأرباب الدولة ــ باستثناء ــ الناشطة اليمنية / توكل كرمان الحائزة على جائزة نوبل للسلام ، التي لفتت الإنتباه لفنان الوطن / أيوب طارش عبسي ، وكرمته في حفلٍ “رفيع الهامة” أُقِيمَ في تركيا؛ ومؤسسة (البيسمنت الثقافية) التي كرّمت الفنان / عبدالباسط عبسي في صنعاء ، آواخر يناير 2020م ، في حفلٍ حضره الكثير من المثقفين وهواة الفن وعلى رأسهم الشاعر والأديب د. سلطان الصريمي صاحب معظم القصائد الغنائية الجميلة للفنان.
غنت هاجر الكثير من أغاني أيوب وعبدالباسط عبسي ، كانت (يامن رحلت إلى بعيد) آخر ما غنتها لأيوب ، والتي تزامنت مع مرثية الشهيد العميد/ عدنان الحمادي رحمة الله تغشاه؛ وكانت آخر أغنية للفنان عبدالباسط(أشتي أسافر بلاد ما تعرف إلا الحب) الأغنية التي تصدرت واجهة مواقع التواصل الإجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة.
لقد كان لتوقيت إحياء التراث أهميته الكبرى؛ حيثُ يُلاحظ انزلاق فاجع لواقع التراث اليمني بأنواعه المختلفة ( أغاني / أزياء / أعراف / ثقافات / مواهب/ ….)؛ فالفنانون اليوم ــ يطبخون ــ القصائد الشعرية الغنائية في عشيةٍ وضحاها؛ فيستيقظون صباح اليوم التالية قبل أن يزيلون الأقذية من أعينهم؛ ليخبزونها بأقبحِ صورةٍ يعرفها الفن ، بعد أن كان أيوب يقضي أشهرٍ وسنين في ألحان بعض القصائد…!
للفن رونقه الجميل ، وطعمه الخيالي ، وروائحه الفواحة ، وألوانه الزاهية؛ حينما يَبعثُ الله باعثيه ، وترى المستحيل أمام عينيك ، بشكلِ فنانٍ يُعيدُ أيام الزمن الجميل ، الذي تميّزَ فيه الفن العربي “بالفرادة” على غيره من البلدان ، والذي ارتاده أمثال (أيوب طارش وعبدالباسط عبسي والمرشدي ومحمد سعد والسنيدار وغيرهم في اليمن …/ وعبدالحليم حافظ وفريد الأطرش ووديع الصافي وأم كلثوم وفيروز وشادية وآخرين في المنطقة العربية…)؛ حيثُ كان “زمنًا” يحترم الفنانون ــ انتمائهم للأرض ــ واعتزازهم بالهوية.
للفن وجهٌ آخر
الموروث الشعبي من (أزياء وصناعات وحِرَف وغيرها…) الذي تُركَ لعقودٍ كثيرة؛ استجمعت هاجر بعضٌ منه ، وبَرَزَته بشكلِ قميصٍ شعبي ارتدته ، وبعض المعادن المزخرفة التي وَزّعَتها على جسدها؛ لتبدو كحمامةٍ حسناء مطرزةٌ بالآلئ الملونة…!
فالقميص والمقرمة والزنة كأزياءٍ ، يَبرِزون من الجمال ما لم نجد قليله في البوالط واللُثم كأزياءٍ دارجة على الزيء الشعبي المعروف بجماله وأصالته وزخارفه وخيوطه ، وجودته ، وتنوع وغلاء معادنه.
والمعادن اللامعة المتوزعة على أنحاءٍ متفرقة من الجسم؛ لا يساوي جمالها المكياج ولا البودرة ولا الشميلات والخواتم والقلائد المرفقة بالأحرف الإنجليزية المعبرة عن (الحب الخالد).
فالليزم والعُصبة حول الرأس ، والجدائل في الشعر ، والأخراص والأقراط في الإذنين ، والشُميلات في اليدين ، واللَبَّات والقلائد والسلوس والدُقَق من العنق إلى الصدر ، والخواتم الفضية والعقيق في الأصابع؛ يُظهرها كلؤلؤةٍ مكنونةٍ ، أصلها ثابت ، ونسلها في السماء…!
ولن يكون الجمال بالأصباغ والكريمات وما صُنعَ حديثًا ، أكثرُ جمالًا من الحُليات الفضية ، والعقيق اليماني ، والآلئ ، والياقوت ، والعنبر ، والزمرجد ، والذهب ، والمرجان ، بألوانها وأحجامها وزخارفها ولمعانها وهندسيتها وثمنها وأنواعها المختلفة؛ ولا معنى للهوية دونهم.
لم يكن ارتدائها الملابس والمعادن للزينةِ فحسب؛ بل كانت رسالة تُذكّرنا (بِحِرفٍ وصناعاتٍ) أهملها أفراد الجيل الثالث والرابع (إنترنت) ، بعد أن كانت أهم وأكبر مصادر الدخل لأجدادنا ، وهوية قومية يعتزُ بها الإنسان اليمني ، تميزه عن غيره من الأجناس ، وكانت من أهم مقومات الدولة أنذاك؛ وما أن وصلنا إلى أجيال الإنترنت؛ دُفنت تلك الحِرَف والصناعات ، لِتُصبحَ لعنةٍ على جبين العصر وأجياله الذين يعيشون أسوأ مراحل التأريخ اليمني من النواحي الإقتصادية والأمنية والصحية ، ولا يستطعون إنقاذ أرواحهم أو تدفعهم معاناتهم لإعادة الإعتبار للإقتصاد الوطني كمنقذٍ وحيد لما هم فيه ، بدلًا من الإعتماد على الآخرين.
* كاتب وناشط من اليمن.