وجع الفقدان ودموع الذكريات

د. عارف محمد الحوشبي

الحياة تمضي سريعاً، تأخذ في رحلتها أناس أعزاء دون استئذان، تترك خلفها قلوبًا مكسورة وأرواحًا تائهة في بحر الذكريات، اليوم التقيت بالطفل عوض، ابن الاخ والزميل المرحوم عبدالله عوض بن ناهية، ما إن وقعت عيناي عليه حتى انكسر داخلي وتقطع قلبي ألماً وامتلأت عيناي بدموع لم أستطع حبسها، لم يكن مجرد لقاء عابر بل كان بابًا فتح على مصراعيه لذكرى موجعة لذاك اليوم الأخير الذي رأيت فيه عبدالله رحمه الله قبل وفاته، لقد رأيته ذلك اليوم حين كان يتحدث الي وهو واقفًا شامخًا، وعوض إلى جانبه كأي طفل صغير يمسك بيد والده وكأنه يمسك بمستقبله المشرق وحصنه الحصين ودرعه المتين بل كأنه يمسك بحياته بأكملها، وماابكاني اليوم انني رأيت عوض وفي عينيه البريئتين يسكن الألم وجدت نظرة تحمل في طياتها انكسارًا أكبر من سنه، وكأن الزمن قد سرق منه طفولته قبل أوانها بالرغم من وقوف اعمامه الى جانبه اعمامه الذين حاولوا ومازالوا يحاولون بكل ماآتاهم الله من مكارم الاخلاق والوفاء وقيم الاخوة الخالدة ان يخففوا من حزن قلب ذلك الطفل البرئ ساعين الى جبر قلبه الكسير ولكنه فراق الاب وليس اي فراق فيالها من كلمة ثقيلة على القلوب والالباب.

نعم لقد رأيت في عوض اليوم ذلك الطفل الذي حمل في براءته ألم الفراق، رأيت قصة فقدان لم يكن بإمكان الزمن أن يخفف من وطأتها، ففي كل نظرة منه كان يتردد صدى كلمات الوداع التي لم تُقل، نعم كان يرى في عينيه انعكاس مشاعر طفل فقد رجلًا كان يعتبره الجدار المتين الذي يحميه من عواصف الحياة.

إن فقدان الأب ليس مجرد حدث عابر، بل هو زلزال يضرب القلب بلا رحمة، فيترك وراءه فراغًا لا يملؤه شيء فالأب هو الجدار الذي يحتمي به أبناؤه، وهو الشمس التي تضيء دروبهم والسند الذي لا يميل مهما اشتدت رياح الزمن وعواصف الحياة، عندما يرحل الاب يرحل معه الأمان ويصبح العالم موحشًا، قاسيًا، لا يطاق. نعم لقد رأيت في وجه عوض صورة لكل طفل فقد والده، رأيت أعيناً بكت في صمت وقلباً احترق شوقًا لصوت لن يُسمع مرة اخرى الى الابد، لقد حملت نظراته اليوم ألف سؤال بلا إجابة، وألف جرح لا دواء له وكم تمنيّت لو كنا نستطيع إعادة الزمن بأيدينا الى الوراء قليلاً كي أعيد له لحظة واحدة فأراه بين أحضان والده، لحظة يعانق عبدالله فيها فلذة كبده عوض وبكل شوق يطمئن إلى دفء وجوده، يشعر بأنه ما زال صغيرًا محميًا في كنفه ولكنها أقدار الله فكل نفس دائقة الموت وها نحن اليوم نرثي عبدالله وغد سيقال فينا مانقوله اليوم فيه فلله الحمد على قضاءه وقدره.

لقد بكى على رحيل عبدالله الجميع؛ زملاؤه في العمل، جيرانه في السكن، أهل بلدته، وكل من عرفه وتعامل معه. لقد كان عبدالله ذلك الإنسان الذي يلامس قلوب الجميع بابتسامته الصادقة ونبرات صوته المميزة التي كانت تعكس عمق شخصيته وطيبة قلبه وعلى الرغم من رحيله فإن ظل أثره سيظل في كل زاوية من زوايا الذاكرة يعانق القلوب والأرواح، فعبدالله لم يكن مجرد اسم بل كان قصة حياة؛ قصة تركت بصمتها في العمل، وفي الشوارع التي سارت عليها خطواته، وفي قلوب كل من كان له شرف معرفته فقد كان رمزا للاخوة والصدق، وحينما رحل ترك فراغًا لا يمكن لأي كلمات أن تملأه. ومع كل دمعة ذُرفت، كان يبدو وكأن الزمن يقف للحظة احترامًا لذكرى رجل عاش بقوة الحب والعطاء وحينما نتذكره يتبادر إلى الذهن سؤالٌ صامت: كيف يمكن لقلبٍ أن يستوعب فراقًا بهذه الحدة؟ ربما تكون الإجابة في أن الحياة نفسها هي رحلة من اللقاءات والوداعات، وأن الفراق رغم قسوته هو جزء لا يتجزأ من تلك الرحلة التي تعلمنا معنى الحب الحقيقي والوفاء والارتباط الذي لا ينفصم.

هكذا هي الحياة، تأخذ ولا تعيد، تتركنا نحمل أوجاعنا ونمضي في رحلتنا الى دار الخلود يودع بعضنا بعضاً وداعاً ابدياً لا لقاء فيه الا لقاء الاخرة وداعاً نكمل بعده الطريق بأرواح نصفها في الدنيا، ونصفها الآخر يسكن فيمن فقدناهم.

وفي النهاية، تبقى ذكريات عبدالله كأثرٍ لا يمحوه الزمن، وكمثل ضوء خافت ينبعث في ظلمات الفراق، يذكرنا بأن كل لحظة عشناها معه كانت بمثابة هدية ثمينة، وأن روح المحبة التي تركها خلفه ستظل تضيء دروب كل من عرفه ولا يسعنا إلا ان نقول اللهم ٱرحم عبدك الذي صار بين يديك وٱجعل الجنة مأواه وٱغفر له إنك على كل شيء قدير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى