محمد الضاوي يرويها | قصة صديقي القديم الهاشمي #الحوثي الذي قُتل في #حجور
معين برس : كتب : محمد الضاوي
لا أدري من أين أبدأ حديثي ولا كيف أنُهيه، ولكني وعلى كل حال سأروي لكم الحكاية وعلى النحو الذي أجيد وحسب.
في بداية السنة الثانية من مرحلة الدراسة الجامعية، وبعد انتهاء محاضرة تكنولوجيا الإنترنت، مكثت في معمل الحاسوب لبعض الوقت، تقدم إلي شاب يبدو عليه من البساطة ودماثة الخلق ما يجعل أي شخص مكاني يعامله بلطف، قال لي: “يأخي اشتي تفهمني المحاضرة لأني قد تغيبت كثيراً”. إنهاء حديثه، وطلبت منه الجلوس على كرسي إلى جانبي وشرحت له الدرس كما لو أنني الأستاذ المحاضر، ولما فرغت من ذلك وجدته غير مكترث وكأنه لم يكن حريصاً أبداً على أن يفهم ما فاته من الدروس بقدر حرصه على التقرب مني، تعارفنا بطبيعة الحال ومع مرور الأيام تصادقنا وزرته في منزله وزارني في منزلي، ولم أشك للحظة واحدة، أنه يخفي من الأمور ما لا يحمد عقباها.
ذات يوم ونحن في أروقة الكلية، مررنا بمعرض رسومات لقسم الجرافكس، دعوته لأخذ جولة بداخل المعرض، كنت مستمتعاً بوقتي وكان هو غير آبه بما في اللوحات المعلقة المرسومة بالقلم الرصاص، وفجأة وحين اقتربنا من إحدى تلك اللوحات، هرول مسرعا باتجاهها ووقف متأملاً وفي عينيه بريق لم أره من قبل، وقد ارتسمت على محياه ابتسامة، هي الأخرى لم تكن معهودة عنه قبل ذلك، سألته عما يحدث فاجأني بكلمة واحدة لم أنساها حتى اليوم، لقد قال: “قريباً” ولم يفصح عن شيء بعد ذلك، رغم كثرة استفساراتي حول سر انجذابه إلى لوحة مرسوم عليها صورة الزعيم الإيراني خامنئي.
مرت الأيام والشهور، وكان تواصلنا وزياراتنا لبعضنا فيما بعد أوقات الدراسة قليلة ونادرة، غير أن ثمة زيارة قد حدثت بدعوة منه، ذهبت يومها إليه فاستقبلني على باب منزله بحفاوة وأخبرني بأننا سنجلس ونتعاطى القات لدى أحد أصدقائه الذي يسكن بالجوار، لم أتعجب لذلك أبداً فتلك حالة كثيراً ما تتكرر في حياتنا كيمنيين، توجهنا إلى دار صديقه وصعدنا إلى الطيرمانة، تحدثنا حول أمور كثيرة، ومن جملة ما دار الحديث حوله في تلك الجلسة هو زيارته بمعية صديقه إلى ريف عنس قبيلة صديقه ذاك وعن ما اهدراه هناك من ذخيرة في تعلم القنص وكانت الأمور حتى تلك اللحضة طبيعية وليس فيها ما يريب على الإطلاق.
وقبل أن يختفي صديقي الغامض إلى حد ما، تكررت زيارتي له مرة واحدة كانت الأخيرة، وهذه المرة في الدور الأرضي من منزل والده الذي يحمل شهادة الدكتوراة ويعمل بمنصب أكاديمي مهم في إحدى الجامعات الحكومية، لفت انتباهي الغرف الكبيرة الخالية من المفروشات والأثاث عدى غرفة صغيرة جلسنا بها على فرش متواضع جداً لا يعكس الحالة المادية الممتازة التي يتمتع بها صديقي وأسرته، سيما وقد زرته من قبل وأعرف مدى اهتمامهم بالتجهيزات الداخلية لمنزلهم الكبير والفخم، كانت في الغرفة أيضاً كتيبات وجرائد موضوعة على رف بالقرب من مكان جلوس صديقي، وكان في أقصى الغرفة تلفاز صغير كنا نشاهد ما تعرضه بعض القنوات عليه بعد مضي وقت قليل من جلوسنا وبدء مضغنا للقات، بينما كنا على ذلك الحال، دخل علينا شاب يصغرنا سنا وحجما، كان نحيل القد قصير القامة أشعث أغبر يرتدي ثوب أبيض متسخ ومحتزم بالحزام المعروف بالقايش ويحمل في يديه ملزمة وكيس قات وقارورة ماء، ألقى السلام وبدأ بمصافحتي لأني الأقرب إليه، أقترب من صديقي وخر ساجداً وجثى يقبل ركبتيه وهو يقول له: “كيف حالك يا سيدي”؟، وهنالك كانت الصدمة، انتابني شعور بالدهشة والتعجب والاستنكار وهو ما بدى ذلك على وجهي واضحاً، غير أن صديقي لم يعر ذلك أي اهتمام وتصرف كما لو كان الأمر طبيعياً جداً وراح يبادل الزائر الغريب الحديث وكأني لم أكن موجوداً أصلاً، أما أنا فقد شغلني ذهولي عن حديثهما واعترتني حالة شرود تلقائية كتلك التي تصيب أحدنا عند مواجهة أمر مفاجئ وغير مألوف فيحاول العقل سريعاً الإختلاء بنفسه لعله يجد تفسيراً لما تلقاه من مشاهد غريبة، عدت من شرودي خال الوفاض عدى تفسير واحد ساذج جداً وربما غبي، حدثت نفسي بأن الزائر هو على الأرجح أبن لأحد إخوة أو أخوات صديقي وأنه تقاليدهم تقضي بضرورة تأدية ذلك السلوك كواجب يعبر عن احترام الصغار لمن هم أكبر سنا منهم في نفس العائلة، وهنالك التمست لنفسي عذراً، فأنا قد اعتدت في مناسبات معينة وعند اللقاء بعد طول فراق على تقبيل ركبة جدي وجدتي ووالدي رحمهم الله جميعاً غير أن الأمر في حالة صديقي بدى مختلفاً، فلا هو كبير جداً ليوقره من هو أصغر منه سناً وبذلك القدر من الخضوع، ولا الزائر الصغير قد أظهر من القرابة بمن دعاه يا سيدي شيئاً، والآن يجب علي أن أركز فيما يقولانه لعلي أفهم ما يدور حولي وتنتهي حالة الأطرش في الزفة، لم تجد محاولتي نفعاً، كانا يهمسان إلى بعضهما، فالزائر الغريب كان لايزال مقرفصا وشبه ملاصق لصديقي الذي غدى اليوم سيداً وحصوراً، ولما طال حديثهما قررت المغادرة، واستأذنت صديقي الذي لم يبدي أي حرص على بقائي وبادر على الفور بتوديعي، فما كانت بعد ذلك إلا نصف ساعة لم أشعر بمرورها وكأنني مت خلالها وبعثت من جديد لاجد نفسي في منزلي حائراً تائهاً.
لن ادّع أنني استوعبت الأمر سريعاً، ولكني وبطبيعة الحال، لم أدرك حقيقة ماحدث إلا بعد أيام من الحادثة التي لم أرى بعدها صديقي ولم اسمع منه او عنه شيء، لقد وردتني أخبار تفيد قيام الأمن القومي اليمني بمداهمة منزل صديقي واعتقاله هو واخوته العشرة، صديق ثالث كانت تربطني به هو الآخر علاقة طيبة هو من أخبرني بالحادث لأنه يسكن في الحي ذاته الذي يسكنه صديقنا المقبوض عليه، لقد أخبرني أيضاً بأن صديقنا متهم بقيادة خلية حوثية إرهابية كانت تخطط لتنفيذ عمليات تفجير واغتيالات بصنعاء وبأن رجال الأمن القومي وجدوا في منزل صديقنا المتهم كميات هائلة من الأسلحة والمتفجرات بمختلف أنواعها، لقد حل اللغز أخيراً وفهمت بعد ذلك مالم اسطع إلى فهمه سبيلا.
لم أعلم بأن طه الضلعي/ الاشموري لقباً الهاشمي نسباً وهوية القرشي أصلاً كان مؤمنا بخرافات أجداده الهاشميون إلا بعد مضي ما يقارب حولاً كاملا ًمن تعارفنا، لم أعلم بأنه وأمثاله الكثير من الزملاء والأصدقاء كانوا جنوداً مجندين لدى تنظيمهم السري آنذاك، إلا بعد أن وقع هو في قبضة الأمن، حينها اعدت تشغيل شريط الذكريات ووجدت تفسيراً لإعجابه بصورة خامنئي، وسبب ذهابه وصديقه إلى عنس واهدارهما للذخيرة فيما اسمياه بهواية القنص، ولغز خلو الدور الأرضي من منزله، وأخيراً سر تقبيل الزائر لركبتي صديقي طه.
كان ذلك في العام 2006.. وقبل البارحة، تلقيت نبأ وفاته قتيلاً في حجور التي اعتدى عليها طه وأخوته الهاشميون واتباعهم وقتلوا أهلنا فيها قبل أن يقتلو هم أيضاً..
أما كفاكم يا بني هاشم عبثاً واجراما بحقنا وحق أنفسكم؟!.
والله لن تقودكم خرافاتكم وأحلامكم وأمانيكم إلى ما تبغون من سلطان وتسلط ما دامت قائمة على هلاكنا وانتزاع حقوقنا منا وعلى رأسها حقنا بحكم أنفسنا، ووالله بأنكم لهالكون قبل أن تنالوا ما تزعمون من أباطيل.