رسالة أبي في عيد أمي… 1995م
زياد البسارة
قبل أن يبزغ فجر ذلك اليوم المخصص لعيد الأم من ذلك العام – كنت قد إستيقظت على أصوات العصافير برفقة رسالة خاصة يتوجب إيصالها إلى مسامع أمي التي كانت تتأهب في التوقيت المبكر من عمرها للقيام بمسؤؤليتها التاريخية تجاه أطفالها بعد أن أصبحت بالنسبه لهم هي الأم والأب على حد سواء.
ولعلي أقتبس من بين أصابع قدميها نور الجنة التي تقف عليها جموع أقدام الامهات- كان من الواجب عليا أن أقتفي آثار اقدام هذه الارملة التي إحتزمت ” المحشة ” على خاصرها للدلالة على أنها ذاهبة إلى أعالي جبل منقير لجلب حزمة حطب تغلق بها رصة ” المحطاب ” الذي إحتطبته من أشجار ذلك الجبل الشاهق رغم المشقة الكبيرة التي كانت تتكبدها صعودا ونزولا برفقة مجموعة من نساء القرية الثكالى – الأمر الذي يعني إستحالة قراءة هذه الرسالة في لحظة كان العرق يتصبب من جبينها سيلا جارفا مصحوب بأنفاس متقطعة من حنجرتها.
ومع إشراقه شمس ذلك اليوم المفترض أن يكون عطلة رسمية للأمهات كما هو حالنا الطلاب- كانت هذه المراة الكريمة قد إتخذت مكانها المعتاد أمام ” مخدشة اللبن ” للقيام بما يتوجب عليها فعله لتحضير ” سبغ الصيام ” بعد أن قامت بحلب البقرة وإضافت الحقن المطلوب خلطة مع الحليب للحصول على اللبن وبعض ” الدهنة ” – وعلى الرغم من كون هذه العملية تحتاج إلى همة سواعدها في تحريك ” مخدشة اللبن ” بما قد يستغرق بعض الوقت- لكن سواعد هذه المراة لا تعجز عن هوايتها الروتينية التى ينتظر عطاءها بعض الجيران الذين جاءو للتزود بلبن هذه السيدة ذائع المذاق والصيت – وكل ذلك يحتم عليا تأخير قراءة هذه الرسالة إلى ما بعد إستمتاعي بشرب ” مطيبة ” فاخرة من ذلك اللبن الفاخر.
وإلى سفال الوادي حيث تختلق هذه الشجرة المباركة المزيد من الأشغال الشاقة في يوم عيدها- كان عليها أولا أن تشد متطلبات رحالها على ظهر ذلك الحمار الأبيض للقيام بما يتوجب عليها جمعه من الحشيش والقصب وبعض الأعلاف التي تحتاج إليها بقرتها الحمراء وعجلها الأسود الصغير المولود حديثا – الأمر الذي يعني بالنسبة لها ضرورة إكرام هذه البقرة ” النفاس ” بالغذاء المناسب للحصول منها على اللبن والسمن اللازم لمعيشة أطفالها والذين ينتظرون عودتها من الوادي لإشباع بطونهم الجائعة بما لذ وطاب من إعداد يديها الماهرتين في صنع الطعام من أبسط الاشياء والمقادير – وما عليا سوى الإنتظار مثلهم لما يشبع بطني الصغيرة التي لا تقوى على الصيام ولا تقوى على قراءة هذه الرسالة.
وعلى جدول أعمال ذلك اليوم المثقل بالشقاء والكدح – كان على هذه النفس الطيبة أن توقد ما أستطاعت جمعة من الحطب إلى داخل ذلك ” الطبون المدر ” الذي بدأ يشتعل بفعل تلك النيران والدخان المتصاعد من الحطب – وكل ما عليها فعله هو تحمل لظى تلك النيران وألسنة اللهب بما يسمح لها بإدخال ” أقراص الفدرة ” إلى داخل ذلك التنور الشعبي والتي كانت قد صنعت عجينها فور وصولها من الوادي – ولصعوبة مرافقة أمي في هذه الملحمة الدخانية الكثيفة بالنيران تعذر معها أيضا قراءة هذه الرسالة إلى إشعار آخر.
ورغم حالة العطش الشديد الذي يعتري ضمور شفتيها الصائمتين – كان على هذه العين الجارية عصر يوم عيدها أن تشد دبتين فارغتين مع بعض ” القرب ” التي يستطيع حملها ذلك الحمار الأبيض والسير بإتجاه نبع الماء في ذلك البئر البعيد جدا عن القرية لتزويد منزلها بكمية المياة المناسبة التي يحتاجها منزلها للعيش فيه بهذا القدر القليل من المياة كغيره من بيوت القرية في ذلك الزمان.
ومع ذلك كانت أمي تشعر بسعادة بالغة وهي إذ تفك الوثاق عن تلك الدبتين من الماء لكن ذلك مؤشر على أنها لا ترغب في سماع تلك الرسالة ربما لإعتقادها بإن هذه المحاولة من طفلها ليست سوى ” مزيقات ” أخفى وراءها رغبتي في الحصول منها على 80 ريالا ثمن بوتي “بنص” من دكان حسن.
وحتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من كفاحها المتواصل – كان على هذه اليد الشريفة أن تتأكد من وجود ثقوب أو تمزق في ملابس أطفالها – الأمر الذي يعني تشغيلها لماكينة الخياطة التي كانت تمتلكها لستر عورات أطفالها وبكون هذه الماكينة هي الوحيدة في قرية المنزل حينها كان عليها أولا الانتهاء من تخييط وحياكة ملابس الجيران الذين يطلبون ستر عورة أبناءهم لوجه الله – وإلى أن تنتهي أمي من هذه الخياطة كان من الواجب على اطفالها أن ينجزوا أمامها ” عمليا ” ما هو مطلوب منهم من واجبات مدرسية قبل أن يأتي ” السمار ” بخيلهم ورجزهم.
وخلف كواليس سغفها للحياة ومحبتها للناس – كان على هذه الروح الخالدة أن تتقمص دور ” المخرج” الذي يشير إلى بداية الأمسيات الرمضانية في منزلنا لمشاهدة التلفزيون الوحيد في قريتنا والمخصص للنساء وكل ما علينا هو الاستعداد لاستقبال حجاج بيت حسين…. من النساء والاطفال الذين جاءو من كل فج عميق لمشاهدة المسلسلات والبرامج التلفزيونية – ولا نملك جميعا سوى الانصياع لتعليمات المخرج ” أمي” بضرورة إحياء سنة أبي الحميدة في مثل هكذا مناسبات رمضانية كجزء من رسالته في الحياة.
وما بين مطرقة الظلم وسندان الظلام الذي بدأ يحمل على منزلنا ذلك اليوم مع خروج “السمار” وأنطفاء التيار الكهربائي – كان ما يزال أمام هذه الشمعة المضيئة التي إحترق شبابها من اجل صغارها متسع من الوقت للحنان .
وعلى ضوء ” النوارة ” كان من الواجب على أمي أن تقوم بجولة سريعة بأصابعها على رؤؤس أطفالها لعلها تحتاج إلى تدخل فوري لإيقاف زحف ” القمل ” في خصلات شعري- الأمر الذي كان يشعرني بنوع من الاريحية والاسترخاء بأصابع أمي كيف تبدد شحنة الخوف والقلق الذي ينتابني قبل المنام.
تداركت – حينها والآن- أن قراءة رسالة أبي في عيد أمي سيحرك في داخلها الكثير من المواجع والشجون وهذا ما لا أطيقه عليها- وصار من الأحسن حينها لو أني أعيش أجواء النشيد الوطني الذي يتوجب عليا ترديده بإذاعة المدرسة مع كل يوم دراسي جديد.
وبهذه المناسبة نقووووول : كل عام وأمي وجميع الامهات بألف خير.
٢١ مارس ( ١٩٩٥ – ٢٠٢٤ )