مصطفى محمود| سيناريو ومآلات ما بعد الطوفان
مصطفى محمود
دمار الطوفان يأتي على كل ما كان قائماً قبله وينسفه، يدمره من الجذور، ويترك الخراب الواسع شاهداً عليه. وهذا، بالتأكيد، ما سيفعله طوفان الأقصى- في غزة بشرياً ومادياً وعمرانياً، لكن في إسرائيل ومعظم دول الإقليم والعالم المعنية بالصراع معنوياً وفكرياً. لقد هُزمت إسرائيل بالفعل. ومهما كان ما ستفعله، لن يأتيها بنصر أبداً طالما ظلت متمسكة بعقلية ما قبل الطوفان.
عقب هزيمتها تحت هجمات الحادي عشر من سبتمبر المباغتة كما الطوفان مطلع الألفية، تَمَلك الغضب الولايات المتحدة الأمريكية وصالت وجالت ونشرت قواتها تقتل وتدمر في أفغانستان ثم العراق، لتخرج بعد 20 عاماً باعتراف مُوثق بهزيمة أبت أن تُقر بحقيقتها منذ البداية. لكن رغم الحرب والدمار جسدت تلك الهجمات الماضية، كما يُتوقع للطوفان الحاضر، مدى الحاجة إلى نظرة جديدة ومغايرة جوهرياً إلى الذات والآخر. هذا هو الدرس الذي تعلمته أمريكا من الهجمات، ومن المتوقع أن تتعلمه إسرائيل حتماً من الطوفان.
ظلت إسرائيل قبل 1973 تنظر بعين واحدة إلى نفسها وإلى العرب داخل حدودها وأبعد منها. وتصرفت وفقاً لتلك العقيدة. ولم تغير نظرتها وتصرفاتها تلك إلا بعد هزيمة مذلة لكبريائها العسكري في 6 أكتوبر 1973. بعد هذا التاريخ، تشكلت عقيدة إسرائيلية مغايرة لما كان سائداً من قبل، لكنها بمرور الزمن أصابها الجمود والتكلس والعقم، لتعجز عن معالجة المشاكل الفلسطينية المتراكمة. حتى انفجرت هذه الأخيرة في وجهها كما الطوفان.
إسرائيل ستدمر حماس، ستمحوها من الوجود كما تقول. لكنها، رغم ذلك، لن تنتصر. هناك قنبلة موقوتة من ملايين الأسلاك الموصلة للانفجار في قلب إسرائيل. ماذا سيفيد إسرائيل لو أزالت بضعة آلاف منها. هذه هي المسألة، هي المشكلة الجذرية. ماذا فعلت إسرائيل أمس، وماذا تفعل اليوم، وماذا ستفعل غداً مع هؤلاء المعادين والكارهين لها الذين يسيرون في شوارعها، في شرايينها، وحتى في فصوص دماغها الأمامية والخلفية؟
حتى لو أزالت غزة عن بكرة أبيها من الوجود، ستبقى المشكلة الفلسطينية الأزلية جاثمة على صدر إسرائيل، تؤلمها وتُثقل على ضميرها وتُحرجها أمام شعوب العالم، ومن حين لآخر تُلحق بكبريائها هزيمة مذلة كما الطوفان. ليس الحل في محو حماس ولا تدمير غزة. طالما ظل أصل الداء بلا دواء، لا شك ستولد حماسات وغزات أكثر.
ربما الانتقام الثأري يُشفي الغليل ويُثلج الصدور الموجوعة لبعض الوقت، لكنه لا يغير حقائق الواقع. هجمات سبتمبر لم تغير حقيقة القوة الأمريكية العالمية. بل أكدتها أكثر. وطوفان الأقصى لن يزيل الاحتلال الإسرائيلي. بل سيزيده شراسة وعنف. لكن حين تهدأ ثورة الغضب على الجانبين ويتكشف حجم الخراب والدمار والخسائر المتبادلة، ولكي تعاود الحياة رحلتها الأبدية، لابد من إعادة إعمار ما دمرته الحرب. ودائماً، في أعقاب الحروب، كانت عمليات إعادة الإعمار تنهض فوق ذات الأرضية المدمرة لكن على أسس جديدة، من حيث النظرة والعمران على حد سواء.
لقد أتى الطوفان الغزاوي بالكامل على النظرة الإسرائيلية والدولية السائدة عن القضية الفلسطينية حتى يوم 6 أكتوبر 2023 واقتلعها من الجذور. المعالجة الحالية لم تعد مجدية وتأتي بنتائج عكسية ولابد من إعادة نظر. لكن، هل ستتحمل القضية 20 سنة أخرى في انتظار أن تهدأ ثورات الثأر والثأر المضاد بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟!