مصطفى محمود يكتب| #الحوثيون والعُقد النفسية الثلاث المنتجة للرثاثة “قراءة”

مصطفى محمود

الاولى– (عـقـدة الـوطن)

“الوطن” مفهوم تجريدي انتمائي يشمل المكانَ البشري معجوناً بذاكرة سوسيوتأريخية محددة تجعله متمايزاً عن بقع بشرية أخرى. وبهذا المعنى، فالبيت وطن والمحلة وطن، والمقهى وطن، والزقاق وطن، والأصدقاء وطن، والعدل وطن، والمدينة وطن، وحينما يعجز المرء عن تمثّل وطنٍ ما في أعماقه، فمصيره المنفى النفسي: إما ببُعدِهِ الوجودي المتسامي، أو ببُعدِهِ الاغترابي العدائي.

وبالعكس، حينما يتحقق الوطنُ وجدانياً في أذهان العوام والنخب القاطنين في إطار مجتمعي معين، فإنه يصبح وقوداً أساسياً لنشوء “الدولة–الأمة” المنشودة؛ وتلك قفزة نوعية متقدمة في إدراك غايات الحياة لدى الانسان اليمني، لكن الحوثيون لا يشعر بيمنيتهم إلا حين يتعلق الأمر بالسيطره علۍ المجتمع واقتسام مناصب السلطة وغنائم الدولة اليمنيه. وسلب ونهب وفرض الجبايات والتحكم بمصائر اليمنيين.. فالوطن لديهم مفهوم سياسي لا هوياتي، يمكن تعظيمه تفاخراً والتباكي عليه حزناً والحديث عنه تحليلياً في وسائل الإعلام بلا حدود. أما الوطن الجيوسيكولوجي فلا مكان له في دوافعهم وأدائهم لأنه يعني إلغاءً فورياً لأحقية تمذهبهم التفتيتي والمؤَسْطَر بسرديات الماضي.

الأيديولوجا الحوثية في جوهرها الفلسفي تعني إلغاءَ المفاهيم التطورية المتدرجة للوجود البشري، وإلباسَ هذا الوجود مسمياتٍ إطلاقية ماورائية تلغي نسبيات المكان والزمان الذي انبثقت منه موضوعياً تلك المفاهيم، وحشره في إطار تنظيمي ثيولوجي مستمد من “إرادة” الله وولاية علي بن ابي طالب وملازم حسين الحوثي..

لكن الوطن هو واحد من المفاهيم الجامعه التي تستهدف العنصريه بكل ابعادها تقويضها، بوصفه فكرة تطورية في الذهن البشري تكتسب معناها العاطفي–الاعتباري في نفوس الناس من جهة، ومعناها المؤسساتي–التنظيمي في إطارٍ دولة مكانيه من جهة أخرى…

فإعلاء المفهوم الجيوسيكولوجي للوطن يعني قبولاً نفسياً ضمنياً بتجاورٍ آمن بين كل النقائض السلاليه والدينية والمناطقيه والمذهبية والعقائدية والطبقية. وهو ما يقع بالضد تماماً من الايديولوجيا الحوثية القائمة على مسلمتي “احتكار” الحقيقة، وامتلاك “مشروعية” تولي زعامة المجتمع بكل تنوعاته التكوينية المتمايزة.

ولذلك، فإن مسألة وجود مدينة يمنية مزدهرة تتجاور فيها بأمان وتوافق كل العقائد الدينية والحزبية والخيارات المذهبية والأصول العِرقية والاتجاهات السياسية والقيم الاجتماعية، إنما تعني تهديداً كاسحاً بانكشاف العقدة النفسية الأساسية الضمنية التي ينطلق منها الحوثيون : ((إن وطننا الوحيد هو المنفى الذي نؤسسه في حياة اليمنيين لأننا سنظل منفيين وغرباء ما دام لليمنيين وطن!)).

إنهم استبدلوا خيار “الوطن” التجميعي المحدد سياسياً وذهنياً، بخيارٍ ميتافيزيقي تشتيتي لا حدود واقعية له لا سياسياً ولا ذهنياً. لقد ورطوا أنفسهم بأن أصبحوا “وكلاء” الله لتنفيذ “أحكامه” الأزلية في إطار سياسي نسبي متغير. ففقدوا بذلك إلى الأبد فرصة أن يكونوا وكلاء لوطنٍ يمنح العدل والأمان والكرامة لهم ولكل الناس.

فمثلما ترعبهم مفاهيمُ الجمال والنظافة والمستقبل، يرعبهم مفهومُ الوطن لكونه وعاءً إدراكياً وقيمياً شاملاً للمفاهيم السابقة، ولكونه يذكّرهم على نحو لاشعوري بمنفاهم الاغترابي وبطارئيتهم ووقتيتهم وزوالهم القادم.. فعقدة الوطن تحركهم دفاعياً في كل صراعاتهم السياسية “المستعصية” لإدامة هدم صنعاء (رمز الوطن) وتجذير الرثاثة فيها سياسياً وجغرافياً وحضارياً ووجدانياً. فبهذا الهدم والترثيث وحدهما يجدون إرضاءً مريحاً لاواعياً لخوائهم التام من أي جذور انتماء نحو أي قيمة مدنية عقلانية.

الثانيو- (عـقـدة الـمستـقـبــل)
أصبحت صنعاء ومناطق سيطرة الحوثي سجن و مقبرة للاحياء وللأبنية المحطمة والمنخورة والمظاهر المسلحه والفوضۍ نتيجة الحرب التي تشنها جماعه الحوثي ضد اليمنيين حول مفاهيم وهمية ماضوية لا وجود وظيفي لها إلا في أذهان الحوثيين، مدمنين على تعاطي تلك الخرافات القابلة للدحض من أي عقل بسيط يحترم الإنسان والزمن.

فأصبح العيشُ تحت سيطرة الحوثي يعني من الناحية الوجدانية مكوثاً اغترابياً وسط مشهد صراعي ينبعث من ماضٍ افتراضي خِلافي دارت أحداثه في مكة حول أحقية الولايه الهاشميه “المدعومة” من الله. فلا مناص أن يغدو المستقبل “سخفاً” أو “ترفاً” ما دمنا لم نجد حلاً بعد لمعضلات الماضي “الجوهرية”،بل وتصبح مغادرةُ الماضي نوعاً من “الإجحاف” أو “الخيانة” للإسلام عموماً وللسلالة الهاشمية تحديداً.

أثبتت تجربة الانقلاب الحوثي والسيطره علي الحكم ما بعد 2014م أن الحوثيين وفكرهم السلالي يفتقر كلياً إلى حاسة المستقبل، وجزئياً إلى حاسة الحاضر. وبتفصيل أكثر، فإنهم حولوا الدين الاسلامي.

من منظومة عقلانية أخلاقوية إصلاحوية إلى منظومة أساطيرية ابتزازية للضعف البشري لملء فراغ ايديولوجي وتبرير اجرام ممارساتهم ضد اليمنيين وعجزهم عن التعامل مع الأزمات المجتمعية والدولتية المتفاقمة، إنما ينطوي على قصور تام في وظيفة إدراك الزمن لدى القيادة الحوثيه التي غرزت أنيابها في عنق اليمن.

فالوعي الجمالي والأخلاقي بالمستقبل يمثل أسمى القدرات العقلية المتحققة في نسيج القشرة الدماغية البشرية التي هي أرقى ما خلق الله وعرفته الطبيعة في جدليتها التطورية عبر ملايين السنين. وحين يعجز الحوثيون عن إدراك أن سهم الوجود الفيزيائي والسوسيولوجي للحياة البشرية يتجه إلى الأمام لا إلى الوراء، فإن ذلك يعني إكلينيكياً إنهم مصابون بـ”عُصاب الزمن” لأن فينومينولوجيا المستقبل غائبة عن تخطيطهم السياسي.

هذا الاختلال في الإدراك الزمني يعبّر إما عن قصور معرفي معلوماتي – وهو محصور في نخبه الحركه الحوثيه -، أو في الغالب عن تلهيةٍ لعقدة خواءٍ مريرة لدۍ السلاليين يجدون في النكوص والتقهقر والاجترار أساليبَ “مُثلى” لإنكار فشلهم في التعامل مع تحديات الزمن القادم، لا سيما تلك التي تتصل بشأن الدوله البالغ التعقيد والتشعب.

وهكذا ينبري السلاليون اليوم للتصدي لمهمة استرجاعية “مقدسة” هي “حراسة” ولاية علي بن ابي طالب في اليمن و”إبرازها” و”إعلائها” و”نشرها ” و”تثبيت” دعائمها، بأنهار من دماء اليمنيين ضد بعضهم البعض و تفتيت النسيج المجتمعي، و هدم ركائز الدولة المنظِمة للحقوق والواجبات، و شفط ثروات البلاد بمسميات سلالية “مُشَرعِنة”.

إنهم مستعدون أن يغمروا الزمن الاجتماعي برمته بشتى وسائل التعويق والتقويض المستندة إلى حُجج “إلهية” مصدرها الماضي “الإشكالي”، فقط لكي لا يكونوا مضطرين للحظة واحدة أن يواجهوا رعبَ الإقرار بأن للمستقبل أرجحيته التأثيرية بوصفه الواقع الحتمي القادم، إذ سيكشف هذا الإقرار فوراً عن إصابتهم بعنّةٍ مطلقة حيال مهمة مُنتَظَرة جسيمة هي بناء المؤسسات وإعمار الحضر والريف وإغناء الاجتماع البشري.

الثالثة ـ عـقـدة الــــنــظافـــة

اقترن صعود جماعة الحوثي السلالية بتحول صنعاء وبعض المدن اليمنية إلى مستودع هائل للقمامة والفضلات البشرية والمياه الآسنة، إلى جانب الغرق الدوري لمساحات سكنية شاسعة بفعل مياه الأمطار والسيول، في انهيار مريع للبنية التحتية الصحية وتدهور محيّر للوعي البيئي لدى المجتمع والسلطه على حد سواء.

فإلى جانب عوامل الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والانساني والاخلاقي وأزمة الضمير المهني والتدمير الممنهج لمؤسسات الدوله الخدمية المختصة بإجراءات التنظيف وتدوير النفايات وصيانة شبكات المجاري.. فإن ثمة مناخاً سيكولوجياً رثاً أشاعته سلطة المليشيا الحوثيه تشجع على تحلل السلوك الاجتماعي في الأماكن العامة، بما يجعل الفرد اليمني شديدَ القسوة تجاه بيئته، وغير مبالٍ بما يصيبها من أضرار عمرانية وصحية جراء ممارساته اليومية التي باتت تتعامل مع الرصيف والزقاق والشارع والمبنى كما لو إنها مزابلُ متاحة لنفاياته وفضلاته لا معالم للعيش الحضاري المشترك.

ولعل أدقَّ عاملٍ يفسر تقبّل اليمنيين لهذا المناخ الرث هو تقويضُ نزعة المواطنة لديهم، أي انحسار مبدأ تغليب المصلحة العامة على المصلحة الذاتية لدى الفرد اليمني في إدارته لشؤون حياته اليومية المتصلة بحياة الآخرين؛ فضلاً عن تلاشي مشاعر الندم أو الأسف لديه جراء ما يسببه للآخرين وللبيئة من أضرار.

ويعزى ذلك إلى طقوسيات “التدين الزائف” التي أشاعتها جماعة الحوثي السلاليه ، وما ولّدته لدى الفرد من كسل التعويل على غيبيات ما وراء الحياة بدل احترام ما يزخر به الواقع من ملموسات وضرورات، ومن نزوع اليمني لأستبدال فكرة الوطن الدنيوي المشترك بفكرة مملكة الدين الماورائي، ومن إحلال علاقته “النفعية” بالسماء محل ضميره الاجتماعي المراعي لحقوق الآخرين، ومن تشبعه الإدراكي بلا معيارية الوجود الاجتماعي (الأنوميا) حوله إذ تُثابُ الرذيلة وتُعاقَبُ الفضيلة كل يوم!

وكل هذا كان يعني تراجعَ عقلانيةِ الفرد اليمني وتدهور شعوره بالمسؤولية الاجتماعية، فضلاً عن تنامي حقده اللاشعوري نحو وطنه ومكانه المديني العام بوصفه ترميزاً لوجود “آثم” اغترب عنه كلياً بما جعله “عدواً” يستحق الرجم بالنفايات.

وبمنظورٍ تحليلي أشد جذرية يطالُ الأداءَ النمطي لسلطة المليشيا الحوثيه ، فإن اتساخها الباطني يولّد مشاعر ذنب فادحة لا يمكن الحد منها إلا بنقلها لهذا الاتساخ إلى الخارج ؛ أي يتم تخفيف وصمة الذنب لديها عبر تقاسمها مع اليمنيين ، وعدّها غير مقتصرة على الذات فحسب. وهنا تنشط ميكانزمات النقل والإبدال الدفاعي، فيكفّ الاتساخ النفسي عن اجترار الإثم واحتقار الذات، ويجد له فسحة تسويغية صلبة، ما دام المحيط البشري والبيئي والمديني تغرقه الأوساخ والنفايات!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى