مصطفى محمود يكتب | الهوية الصنعانيه.. فماذا تبقّى منها؟!
مصطفى محمود
من المقولات المشهوره ((صنعاء أم المدائن من لم يرها لم ير الحضارة ولا الناس)). ووصفوها الرحاله الاجانب في القرن الثالث عشر الميلادي قائلين ((ما دخلنا بلداً قط الا عددناه سفرا، إلا صنعاء فإننا حين دخلناها عددناها وطنا)). وتغنۍ بها الشعراء والادباء والمفكرون ..وتغنۍ بها المغنون….
واليوم بعد مرور أكثر من اثنا عشر الف سنة على تأسيس هذه المدينة التي غدونا نشعر أنها أمُنا التي نحتاج منها أن لا تنقطع عن تكرار ولادتنا كل يوم بالرغم من قسوتها وندوبها وشيخوختها، يأتي الحوثي بمليشياته ليجعلها أسوأ مدن العالم بحسب التقارير الدوليه.
من هنا يبرز سؤال من الذي ينتج الآخر ويديمه، المدينة أم هويتها؟ وبتحديد أكثر: هل اندثرت الهوية الصنعانيه نهائياً بعد أن سحق الحوثي ديموغرافيتها الأنيقة ويسعى اليوم لتفتيت ما تبقى من أسس الدولة المدنية بمعاول المليشيا الثيوقراطية ما قبل المدنية؟!..
أم إن الهوية الصنعانية المنجزة كامنةٌ ومتأصلةٌ في العقل الباطن لما تبقى من سكانها الأصليين إلى الحد الذي سيجعلها تنتشل المدينةَ من الرثاثة الغارقة فيها حالياً، وتعيد لها مناخها السوسيوجمالي الذي هو مزيج من قيم الفن والعقلانية والتمدن؟!
لا تتيسر إجابة مؤكدة ومباشرة عن هذا السؤال المزدوج، في ظل سيطرة المليشيا الحوثيه و الفوضى المجتمعية الحالية، إذ تبدو كل الأحتمالات قائمة لمن يراقب الحدث تفصيلياً بعين المراقب السياسي أو الأجتماعي، ما دام التأريخ لا تحركه الأقدار بل إرادات الناس ووعيهم الاجتماعي سواء كان شعورياً أو لا شعورياً…. غير أن هذا التحليل السيكولوجي ابتدائياً لما آلت إليه أوضاع المدينة الصنعانية، قد يسهم في إضاءة بعض الجوانب المتعسرة التي ينطوي عليها هذا السؤال؛
مع التوكيد أن المقصود بمفهوم “الهوية الصنعانية” هو «هوية المكان المعتّق في جرة الزمان»، .. أي ذلك الطابع الحضاري المدني العلماني الناتج عن السلوك الاجتماعي لسكان صنعاء في الحقبة التي أعقبت تأسيس الدولة اليمنيه بعد قيام الجمهوريه … بما أفرزته تلك الحقبة من فن وأدب وسياسة، ومن منظومات قيمية تنويرية حاكت النسيج الاجتماعي للحياة الصنعانيه.. متمثلة بتنامي قيم العلم والجمال والحداثة والوطنية المجتمعية والتآخي الديني وحرية المرأة وبدايات انبثاق مفهوم “المواطنة” لدى الفرد اليمني .
أن “ترييف” صنعاء أي استمرار الحوثي في جلب سكان ريف صعده إليها وتوطينهم في صنعاء بأعداد هائله على مدى مايربوا عقد من الزمن ومازال مسيطر عليها ، هو العامل المفسر لتآكل فاعليتها الحضارية وتراجع هويتها المتمدنة,
إن الحديث عن هوية صنعانية يظل ناقصاً ما لم يجري استكماله بالحديث عن شخصية صنعانيه ترسم تلك الهوية وتحدد لها وجودها من عدمه. فالبحث في الشخصية الصنعانيه بالمعنى النفسي يعني حتماً التطرق إلى عنصرين نخبويين أحدهما ثقافي والآخر سياسي، رافقا بروز تلك الشخصية تأثيراً وتأثراً خلال الحقبة (1962- 2014)م، ويُعزى كلاهما إلى النزعة الحضارية الحداثوية للدولة اليمنيه..
1- العنصر النخبوي الثقافي: أدى بروز رجالات التكنوقراط والأكاديميين، واشتداد عود الطبقة الوسطى، وازدهار الحِرف الشعبية، وانبثاق الحداثة الثقافية على أشدها (حركة الشعر الحميني والصنعاني والعربي الحديث/ جماعات الفن التشكيلي/ ومنتديات القصه /والمقام الصنعاني والأغنية الصنعانيه /المكتبات والدواوين الأدبية ومقاهي المثقفين/ إلى اكتساب الشخصية الصنعانيه لخصائص التذوق الجمالي والمهارة الحِرفية، وميلها لتبجيل ذوي الاختصاصات العلمية، والانفتاح على المستجدات الحضارية، وتغليب قيم التمدن، والنزوع المتزايد للاستعانة بسلطة القانون المدني بديلاً عن الولاءات السلاليه والقبليه والدينية والمذهبية.
2- العنصر النخبوي السياسي: تزامنَ نمو الشخصية الصنعانيه الأجتماعية مع بزوغ ما يسمى بـ((الصنعانيه السياسية))، وهو مصطلح أطلقه مؤخراً مجموعه من الأكاديميين اليمنيين وأظنهم يقصدون تلك النخب السياسية التي انبثقت وتطورت ضمن إطار المكان الصنعاني ، فنشأت مشبعةً بقيمه المدينية بصرف النظر عن توجهاتها وصراعاتها الايديولوجية (جمهورية/ ليبرالية/ محافِظة/ شيوعية/قومية/ بعثية /اسلاميه)، إذ أصبحث المحافل الارستقراطية، والتجمعات الثقافية، والجامعات والمدارس، ونقابات المحامين والمعلمين والعمال، واتحادات الأدباء والفنانين والصحفيين، وحتى السجون والمقاهي والنوادي الاجتماعية (وجميعها من مكونات المجتمع والدولة المدنيين)، أصبحت حاضنات لتلك النخب التي نشأت تكوينياً في الرحم الصنعاني ، صعوداً وانحساراً، دون أن يلغي ذلك صلات التفاعل المتبادل مع بقية المدن اليمنيه ايديولوجياً وثقافياً واجتماعياً.
فما الذي تبقّى اليوم من هذه العنصرين اللذين ارتبط بهما تكوينياً نشوءُ الشخصية الصنعانيه ؟….
لقد اضمحلت “النخبوية الثقافية” في الهوية الصنعانيه إلى حد كبير هجره وتهجيراً وقمعاً واغتيالاً وانكفاءاً وتراجعاً وضموراً وهروباً ونسياناً، على مدى مايقارب عقد من اجتياح الحوثي للعاصمه صنعاء واسقاط الدوله القائم على العنف والفوضى والظلم الاجتماعي؛ فيما توارت “الصنعانيه السياسية” تدريجياً، وتلاحقت بدلاً عنها كل الأحداث اللاغية لها، ابتداءاً من “الممارسه السياسيه بفظاظتها الأوتوقراطية التي لثمت العقلانية المجتمعية اليمنيه ، وانتهاءاً بـ”اللاهوتية السياسية” المتسرطنة عن الثوره الأيرانيه والتي لم تعد ترى في صنعاء أكثر من بقعة جغرافية ينبغي إثبات “جدارتها الإلهية” عليها!
فصار المكان الصنعاني إما حوزه حسينيه أو متجراً تابع لأحدۍ القيادات الحوثيه أو نقطة عسكرية أو مبنى سكني يطمره الغبار والرماد والأسى، ولا شيء غير ذلك. وأمسى الوقت الصنعاني موزعاً بين هضم الطعام ودرء الموت اليومي والخوف من الغد والانتظار العبثي للكهرباء وكافة متطلبات الحياه…. وتوجّب على الصنعانيات أن يكبتن تصنعنهن العفوي، فيتلفعن بحجاب وتسمع خطاب السيد وزوامل الحرب ، ويتجنبن التجوال في الأماكن العامة، تفادياً لبلطجة المشرفين وأتباع ميليشات الحوثي المفتقرة لأي سند دستوري أو ترخيص قانوني،
إن إنقاذ الهوية الصنعانيه يرتبط جدلياً بإنقاذ الهوية اليمنيه ما دامت صنعاء هي القلب الذي تتدفق إليه ومنه كل شرايين المجتمع وأوردته، بعكس عواصم أخرى تؤدي دوراً بروتوكولياً في بلدانها لا أكثر. ولذلك فإن ما يحصل اليوم في صنعاء وبقية أنحاء اليمن يمكن اختزاله بمقولة الصراع الذي يتخذ شكل الأواني المستطرقة بكافة مراحله ومدياته، بين قيم التقدم وقيم التخلف، أو بين قيم الحداثة والتمدن وقيم التعصب وما قبل التمدن (أي غلبة المعيار السلالي و الديني والطائفي والقبلي والمناطقي والحزبي على المعيار البشري). إنه صراع بين ثقافتين، وبين منظورين فلسفيين اجتماعيين، وبالتالي هو صراع ثقافي وقيمي بين أسلوبين في الحياة، دون أن يعني ذلك إنكار دور العامل الاقتصادي وما يمكن أن يتمظهر عنه من قوى دافعة باتجاه التمدن، كتنمية الطبقة الوسطى، ومكافحة الحرمان والفقر والتفاوت الاجتماعي، وإلغاء التمايز في الأبنية التحتية بين الريف والمدينة، وتحديث الدولة وإدماج التكنولوجيا في الحياة اليومية.
إذا كانت صنعاء بمعالمها الحضارية وتقاليدها المجتمعية قد تلاشت إلى حد كبير، فإن الهوية الصنعانيه ما تزال ألقةً في نفوس سكانها الأصليين بكافة أجيالهم، تثير فيهم نوستالجيا (حنيناً) دفينة نحو مناخ صنعاني حميم لا ينقطع ذكره أو تخيله لديهم،
.
ولأن هناك حدساً جمعياً لدى الصنعانيين بـ”طارئية” المد المليشاوي السلالي الحالي،، فمن المتوقع أن تبقى “الهوية الصنعانيه ” مفهوماً نفسياً محركاً للجيل الحالي وللجيل الذي يليه على المستويات الدافعية والعاطفية والقيمية، حتى يتم التيقن من زوالها، أو إحيائها، أو اجتراحها بعناصر هوياتية جديدة !