ليست الحكومات وحدها من تكمم الأفواه: صحفيات الحياد القسري
صفا ناصر
لم أختر مهنة الصحافة، فجأة وجدتُ نفسي في عالمها. كما لم أختر أن أكون أنثى، أو أن أكون من اليمن، ورثتُ عن أبي هويته، جوازَ سفر أزرق حافل بالمتاعب.
ثلاثة أقدار لا ضير فيها إن أتت متفرّقة، لكن، لو اجتمعت في شخص واحد، جاءت تحمل نبوءة تقول بأن طريقك وعرة.
لم أختر أياً من أقداري تلك، لكنني اخترت أن أعيش في يمن شهد ثورة وحرباً، وشهدتُ بدوري كيف أصبح الوضع شائكاً ينذر بالخطر ويفوق قدرتي على الفهم. خارطة تمزّقها الكثير من القوى المتصارعة، جماعات وفصائل مسلّحة متعددة الولاءات، وشعبٌ ضائعٌ وسط هذا الخراب.
يضحك زميلي كلما رأى حيرتي، أسأله التوضيح فيهز كتفيه: ومن منّا يفهم؟ يتابع: يا صديقتي، لقد قررتِ احتراف الصحافة في أصعب مرحلة يمر بها اليمن في تاريخه الحديث. ينهي حديثه، ثم يتلو عليّ ما تقوله التقارير الدولية من أن اليمن من أسوأ بيئات العمل الصحفي في العالم. التقارير ذاتها تقول أيضاً أن اليمن يعدّ ضمن أسوأ البلدان للنساء، ولأنني أجمع الأمرين، فإنني أتلقى عادة الكثير من النصائح: ابحثي عن مهنة أخرى، إنها ليست المهنة المثلى لامرأة، حسناً، إذا كنت مصرّة فلا أقل من أن تلزمي الحياد، افهمي طبيعة مجتمعك، حاذري من تخطّي سياج العادات والتقاليد، لا تظهري انتماءً أو توجهاً أياً كان نوعه، وتذكري دائماً، السلامة في الحياد.
أحاول الجدال. “لكن الحياد الزائد يطفئ روح الصحفي”، يأتيني الرد صاعقاً: “فليكن، أنتِ في اليمن، ثم لا تنسي أنك امرأة”.
تروي لي زميلتي أنها حاولت ذات مرة أن تجرب كتابة مقالات الرأي، وابتدأت بمقال أبدت فيه رأيها في قضية الحجاب، لكن حدة الهجوم الذي تعرضت له على صفحتها في مواقع التواصل جعلها تتراجع، صرفت النظر عن الفكرة. “لم أستطع الصمود أمام ذلك الكم الهائل من الشتائم واللعنات”. قالت هذا ثم غادرت اليمن.
أرقب بصمت تحولي إلى كائن باهت اللون، حروفي باردة، تفتقر إلى حرارة الصدام الذي يغريك بالمحاورة، بت أشعر أنني أتحول إلى آلة، أشبه بجهاز تسجيل، يسجّل الأصوات وينقلها دون أن يكون له صوته الخاص.
حين دخلت عالم الصحافة، كانت تتمثل أمامي صحافة غادة السمّان، التي كتبت في أواخر الستينيات تحقيقاً بديعاً عن “سوهو بيروت”.
ذهبت غادة السمان إلى”قاع بيروت” وشوارعها الخلفية، تجولت بعد منتصف الليل في أزقتها المعتمة، وكتبت بإنسانية فائقة عن نساء بائسات، قهرتهنّ الظروف فامتهنّ بيع أجسادهن، يقفن على حافة الانهيار العصبي، يعانين استغلال البشر، وعبودية الفقر، وإهمال الدولة وازدراء المجتمع.
كتبتْ كذلك عن لصٍ شاب سرق محفظتها، ولأنه كان ظاهر البؤس لحقتْ به، وسألته إن كان بحاجة المزيد من المال، نعلم حينها حجم مأساته، وأنه يسرق كي يشتري الدواء لطفله المريض.
كنت أطمح إلى هذا النوع من الصحافة، تلك التي تنسف بدهيّاتك الموروثة، وتخبرك أن داخل هذا العالم عوالم أخرى، وأن لكل حكاية وجوه كثيرة. صحافة وظيفتها أن تفتح عينيك على حقائق كنت تجهلها، تدفعك جرأتها إلى التفكير، وإعادة النظر في معتقداتك التي تظنها مقدسة. لكنني بدلاً من ذلك وجدتني حبيسة صحافة رابضة على شاطئ الأمان، مكبّلة بوصايا “لا تنسي أنك امرأة”، و”لا تنسي أنك في اليمن”.
ولأنني لم أنسَ يوماً أنني امرأة، وفي اليمن، فقد روّضت نفسي قبل الشروع في كتابة أي موضوع أن أخضعه للفحص الدقيق، أقلّبه من جميع أوجهه، أحار من أين سأتناوله وكل زواياه ملغومة، كل ركن فيه سيغضب قسماً من الشعب المتحفز أبداً، الجاهز دائماً للانفجار في وجهك، يغمرني الإحباط فأهمله، في انتظار موضوع آخر أو واقع أفضل.
لم يعد الصدام الأزلي بين الصحافة والحكومات هي المعركة الوحيدة أمامك، كنت تخشى عين الحكومة، فصار في كل بيت عين تعد عليك حروفك، تنقّب فيها بحثاً عن أقل شبهة ولاء أو انتماء، تستعد لتصنيفك كي تنتقي لك التهمة الملائمة. يطال هذا جميع الصحفيين، حتى الذكور منهم، لكنه عند النساء يتخذ شكلاً أشدّ ضراوة. نترحم على زمن كان أقصى ما نعانيه بضع عبارات تضمر التحقير من نوع “عودي إلى المطبخ”. أما اليوم فقد تعددت صور المضايقات التي تتعرض لها الصحفيات في اليمن، وباتت أكثر شراسة، صور مفبركة، وابتزاز، وتهديدات بالقتل، حملات تشهير واتهامات تطال الشرف، يصل ضررها إلى عائلاتهن، وتظهر آثارها المدمرة في زيادة ضغوطاتهن النفسية، وفي تقليل فرصهن في العمل، وتدفع بهن، في أحسن الأحوال، إلى هجر الصحافة.
قبل أيام حاورتني طالبة أجنبية تدرس الإعلام، وتعد مشروعاً عن الصحفيات العربيات في مناطق النزاع، قدمتني بصفة صحفية، أردتُ أن أخبرها بأن توصيفها غير دقيق، فأنا لم أشعر يوماً أني صحفية، لم تدعني أكمل، سألتني عن تجربتي، عما إذا كنت قد تعرضت إلى أي شكل من أشكال التنمر، قلت: لا. تبدي دهشتها وتسأل: لماذا برأيك؟ أجبتها شارحة الأسباب. “لأنني صحفية بلا صوت، أحرص على ألا أظهر أي توجه، أحاذر من انتقاد أي فصيل سياسي، إن نجوت من الساسة فلن أنجو من الموالين المتعصبين. أتردد قبل أن أبدي رأيي في قضية مثار جدل، حتى أكثر القضايا عادية، غير مقبول فيها الاختلاف. لهذا ألجأ إلى الصمت، ففي بلدي يكرهون الألوان، بعد أن طغى اللون الأحمر على ما عداه”.
أتوق إلى الكتابة بحرية، لدي الكثير مما أقوله، لكن القيود اللامرئية تثقلني. تلاحقني وجوه شقيقاتي وقلقهن الدائم، ونبرة الذعر في صوت أخي حين أخبرته عن عملي في الصحافة، أتذكر وعدي له. “سأكون حذرة .. لا تقلق”.
وبت شديدة الحذر بالفعل، عذري المعلن أنني أحافظ على حيادي، وأن واجبي الأول نقل قصص معاناة الإنسان في اليمن، ولكن، حتى هذه لا أكتبها بحرية، أجدني ألتف حول الحروف، أنتقي من العبارات تلك التي لا يُفهم منها انحيازاً الى جهة، مهما كان موقفي فلن أسلم من الهجوم، طرف سيرى أني ضده، وآخر سيرى أني لست معه بما يكفي. صرت أجيد المراوغة. أشير دوماً إلى الضحايا بأنهم ضحايا “الحرب”، دون أن أسمي صراحة من هم قادة هذه الحرب، من المتسبب فيها، ومن يمعن في إشعالها. حرب مبنية للمجهول، نتعمد تغييب فاعلها، وكأن الحروب تندلع بغتة من قلب العدم.
تختم طالبة الإعلام حديثها معي بسؤال: بصفتك صحفية من اليمن، بماذا تحلمين؟
لم أكن بحاجة إلى التفكير طويلاً في جواب. ما يزال الحلم ذاته منذ دخلت عالم الصحافة، ولست أدري إن كان سيتحقق يوماً. قلت: أحلم أن أشعر أنني بحق، صحفية من اليمن.