العلامة ابن الأمير الصنعاني.. مُجدد عصره
بلال الطيب
شَهِدت الإمامة الزّيدِيّة بعد وفاة المنصور الحسين بن المُتوكل القاسم (تَاسع أئمة الدولة القاسمية) تَغيرًا نَوعيًا في مَسارها السياسي، استقرت وراثة في ذرية الأخير، فعملوا على نبذ التعصب المذهبي، والتقرب من علماء السُنة المُجددين، ليس حُبًا في الأخيرين؛ وإنما حِفاظًا على عُروشهم، مُستفيدين من عَدم إجازة هؤلاء للخروج على الحكام.
عَاشت مدينة صنعاء خلال تلك الحقبة حِراكًا فكريًا وثقافيًا مائزًا، بَرز فيه عددٌ من العلماء المُجتهدين، والمُجددين، كان العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني أبرزهم على الإطلاق، وقد كانت لجهوده – رحمه الله – ألأثر الأبرز في تنامي ذلك الحراك.
أسوأ احتلال
بخروج الأتراك من اليمن – مُنتصف القرن الحادي عشر الهجري – صار اليمن مِيراثًا سهلًا للدولة القاسمية، لتدخل الزّيدِيّة – دولةً ومَذهبًا – مَرحلة اختبار حقيقي في كيفية تعاملها مع الآخر، ظلت فتاوى الفقهاء حول ذلك تراوح مَكانها، حتى تولى الإمامة الفقيه المُتعصب المُتوكل إسماعيل بن القاسم (ثالث أئمة تلك الدولة)، الذي صنع بفتاويه أعداء وهميين، احتوى أقاربه الطامحين، وجيَّش القبائل المُتعطشة للفيد جنوبًا، وغربًا، وشرقًا، مُؤسسًا بذلك أسوأ احتلال عرفته تلك المناطق على مدى تاريخها.
بوفاة المُتوكل إسماعيل جمادى الآخر 1087هـ / أغسطس 1676م، دخلت الدولة القاسمية نفقًا مُظلمًا، عمَّت الفوضى البلاد، وتفاقمت صراعات الأخوة الأعداء، اختلفوا، وتقاتلوا، وتحالفوا، وانحصر جنونهم شمالًا، والأسوأ من ذلك أنَّ تصرفات ذات الإمام الرعناء صارت سلوكًا مُريعًا لازم غالبية الأئمة المُستبدين من بعده.
رغم أنَّه لم يستوفِ شروطها، حاز ابن أخيه وقائد جيوشه الأمير أحمد بن الحسن الإمامة بالقوة، وتلقب بـ (المهدي)، وكان كثير البطش بخصومه، ونقل ابن عمه المُؤرخ يحيى بن الحسين عنه قوله: «وأما قتل النفوس في زمن المُتوكل – يقصد عمه إسماعيل – فهو عندي من أقرب القرب، فإذا أنكر على من قتل علي بين يدي رسول الله في يوم بدر، وأحد، وفتح خيبر، والخندق، ويوم حنين، أنكر علي بمن قتلت يوم أبين، ويوم نجد السلف، ويوم يافع، ويوم بحران بحضرموت»!
وفي عهده أيضًا كما أفاد ذات المُؤرخ: «ارتفع شأن الشيعة، واستظل تحت حمايته من كان على شاكلته في الرفض»، فقد كان جاروديًا مُتعصبًا؛ بل أنَّه ولشدة كرهه للصحابة أمر بكشط أسماء الخلفاء الراشدين من مِحراب الجامع الكبير بصنعاء.
وروي أنَّه كتب ذات مرة لعمه المُتوكل إسماعيل من مدينة تعز مُعترضًا على إمامة فقهاء الشافعية في المساجد؛ كونهم حدَّ وصفه يُعلمون الناس عقائدهم الخبيثة، وأضاف في رسالته: «وأن عذر الأئمة من قبلك واضح لعدم تمكّن الوطأة، فما عذرك عند الله في السكوت عن ذلك، وقد تمكّنت الوطأة»!
حُكم الإقطاع
ما أنْ صفت اليمن للأئمة من آل القاسم، وخلت من مُعارضيهم، حتى طغى حُكم الإقطاع، وُزعت البلاد بين الأمراء الطامِحين، وإذا ما مات أحد أئمتهم، تشبث الواحد منهم بما تحت يديه، الأمير القوي يتمدد، والضعيف ينكمش، تلاشت حينها الاستدلالات التي تُؤكد أحقيتهم في الحكم والولاية، وغُيبت شروط الإمامة التي وضعها الجد المُؤسس، وتحولت الإمامة من دولة دينية ثيوقراطية إلى مملكة إقطاعية يَحكُمها الأكثر طغيانًا.
بعد رحيل المهدي أحمد بن الحسن جمادى الأولى 1092هـ / يوليو 1681م، عاد الضجيج من جديد حول من يَخلفه، ليقع الاختيار للمرة الثانية على حاكم صنعاء محمد بن المُتوكل إسماعيل ذو الـ 48 ربيعًا، الذي سبق أنْ رفضها بعد وفاة أبيه؛ وما قبلها هذه المرة إلا مُكرهًا؛ وذلك بعد إجماع الناس والعلماء عليه.
ظل أمراء آل القاسم الإقطاعيين مُسيطرين على مناطق نفوذهم، مُتصرفين بأمورها، مُستحوذين على أموالها، وكأنَّهم الأئمة الفعليون، رغم اعترافهم بإمامة المُؤيد محمد الشكلية، وذكرهم إياه في خطبتي العيدين والجمعة، صك بعضهم العملة بأسمائهم، وانقسم اليمن الواحد إلى 15 دولة، كما أفاد قريبهم يحيى بن الحسين، وهو مُؤرخ عاصر تلك الأحداث.
امتنع هؤلاء الأمراء عن توريد الأموال إلى المُؤيد محمد، حتى خلت خزائن الأخير، واضطر للاستدانة من التجار، ليموت في حمام علي مسمومًا بمؤامرة دبرها بعضهم جمادى الآخر 1097هـ / أبريل 1686م، وذلك بعد أن تجرع منهم الويلات.
بدأ بتولي صاحب المواهب محمد بن أحمد بن الحسن الإمامة – منتصف ذات العام – تنافس الجيل الثالث من آل القاسم على الحُكم، صحيح أنَّ صِراعهم انحصر بصورته الفظيعة شمالًا، إلا أنَّ تبعاته الكارثية تجاوزت الجُغرافيا الزّيدِيّة، والأسوأ أنَّه أسس لانقسامات متتابعة دفع القاسميون، وأنصارهم، ومناوئيهم ثمنها كثيرًا.
محطة دائمة
ولد العلامة محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد بن علي بن حفظ الدين الأمير (ابن الأمير الصنعاني) في السنوات الأولى لحكم هذا الإمام الطاغية 15 جمادى الآخر 1099هـ / 16 أبريل 1688م، وفي مَنطقة كحلان تحديدًا، وقد تلقى علومه الأولية على يد بعض علمائها، ولم يكد يتجاوز مَرحلة الطفولة، حتى يمم خُطاه – مع والده – صوب مدينة صنعاء 1110هـ، وكانت الأخيرة حينها عاصمة علم لا عاصمة حكم، وفيها بدأت أراء الوزير، والجلال، والمقبلي، وغيرهم، تتسلل إلى عقول الباحثين عن الحقيقة.
من المعروف أنَّ أئمة الزيدية لم يَجعلوا من مَدينة صنعاء عاصمة لحكمهم إلا في مرحلة مُتاخرة، وقد نَقَل – في الحقبة التي نحن بصدد تناولها – المُتوكل إسماعيل عاصمة الدولة القاسمية من شهارة إلى ضوران، وكذلك فعل خلفه المهدي أحمد بن الحسن الذي نقلها من ضوران إلى الغراس، فيما تنقل ابن الأخير (المهدي محمد بن أحمد) ما بين منصورة الحجرية، وذمار، وخضراء رداع، وصولاً إلى المواهب، والأخيرة بناها ذات الإمام شرق مدينة ذمار، وبها عُرف، وعنها وعنه قال العلامة ابن الأمير الصنعاني:
إنَّ المواهب قـــــد شـاهدت صاحبها
وكــان في جـــوده كالعــارض الـهتن
سفــاك كـــل دم عاداه صـــــاحــبـــه
مُفـرق منـه بـــيـن الـــرأس والبــدن
هتــــاك كـل حمــى إن لـم يــطـاوعه
كم من مَعـاقل أخـــــــلاها ومن مدن
جعل العلامة ابن الأمير من مدينة صنعاء مَحطة دائمة للاستقرار، نَهل من معين علمائها، ولشدة عطشه وشغفه لتلقي المزيد؛ توجه إلى مكة المكرمة مرة أولى 1122هـ، وثانية 1132هـ، وثالثة 1134هـ، ورابعة 1139هـ، ودرس على يد عددٍ من علمائها، وقد كانت رحلته الثانية إلى تلك المدينة العامرة نقطة تَحول فَارقة في مَسار حَياته، فهو لم يكن خِلالها مُتلقيًا للعلم فقط؛ بل بدأ يناظر، ويناقش، وينتقل بسلاسة من رحلة الشك إلى اليقين.
بعد عودته من رحلته الثانية، بَدأ العلامة ابن الأمير الصنعاني في نشر فكره المُعتدل، المُستمد أصلًا من روح الإسلام الحنيف، والقائم على الإصلاح المُتدرج للمجتمع، ونبذ التعصب، ونقد العنصرية، وذلك من خلال طريقة آسرة، جمعت بين وضوح الحقيقة الشرعية، وحُسن إنزال الحكم الشرعي على الواقع المعاش، فكان بحق رائد مدرسة الإنصاف، وفارس ميدان الاعتدال والوسطية.
ورغم أنَّه علوي النسب (جده يحيى بن حمزة بن سليمان)، إلا أنَّه – أي العلامة ابن الأمير – حارب التفسير العنصري للإسلام وبقوة، وهاجم قدسية الأئمة الزائفة، وحكمهم الإقطاعي، وقال عنهم:
إني ومن بيــت الإمامة عصابة
في العـــد قد زادوا على الآلاف
مستـرزقون من الرعـايا ليتــهم
قنعوا بأكل فــرائض الأصناف
بل يأخذون من الرعايا كل ما
يـحــوونه كــرهًا بلا استنكاف
وقال عن المتفاخرين بأنسابهم بشكل عام:
قـــوم عـــن العلياء قعـــــــود جُثَّم
ليسوا بـــــأهل صفـــــائح وصحافِ
لا يغضبون على الشريعة إنْ غدت
منهــــــدَّة الأرجــــاء والأكــنــــافِ
أعني بهـــــم من يــــزعمون بأنَّهم
رأس الورى والنـاس كـــــالأخفافِ
ولأنَّه – أي العلامة ابن الأمير – عاش تلك الحقبة بكل سلبياتها، فقد كان من أوائل المفكرين في العالم العربي الذين هاجموا الإقطاع، ونبهوا إلى المفاسد التي تنتج عنه من تفريق البلاد، وتمزيقها، وبث العداوة بين المناطق المختلفة، والقبائل المتعددة، وقد خاطب الأئمة الإقطاعيين من آل القاسم ذات قصيدة قائلًا:
مزقتم شـمـل هـذا القطر بينكم
كل لـه قــطـعة قفــر وعمــران
وكلكم قـد رقى في ظلم قطعته
مراقي مـا رقــاها قبـــل خوان
القاسم الرهيب
بوفاة المهدي صاحب المواهب، صفت الإمامة لابن أخيه المُتوكل القاسم بن الحسين رمضان 1130هـ / أغسطس 1718م، جعل الأخير من مدينة صنعاء عاصمة له ولمن بعده من الأبناء، والأحفاد، مُؤسسًا بذلك لحكم أسرته، ولأكثر من 120 عامًا، وقد كان بشهادة كثير من المُؤرخين ظلومًا، غشومًا، عُرف بـ (القاسم الرهيب)، وكان عهده مليئًا بالمجاعات، والتمردات، والأحداث الدموية الصادمة.
كان العلامة ابن الأمير الصنعاني من جُملة مُعارضي ذلك الإمام الطاغية، وقد كتب فيه قصيدته الشهيرة (سماعًا عباد الله أهل البصائر)، وهي قصيدة طويلة وناقدة لحكمه، قال فيها:
وقـد كنتـم تـرمون مـــن كـان قبلكم
بظلم وجــــور قد جرى في العشائر
وقلتم نرى المهدي قــد بان جــوره
لكــــل سـميــــع في الأنـام ونـاظر
صــدقتم لقــد كان الظلـــوم وإنـما
بظلمكم قــد صـــــار أعــدل جائر
وإحراجًا للعلامة ابن الأمير الصنعاني، ولكي يُوقع به، عرض عليه المتوكل القاسم أولًا: تولي القضاء في مدينة المخا، وثانيًا: تولي الوزارة، وثالثًا: تولي القضاء العام، والتصدر على الأعلام، إلا أنَّه – أي ابن الأمير – فوت عليه ذلك، واعتذر له بهدوء.
بوفاة المُتوكل القاسم رمضان 1139هـ / مايو 1727م، ارتفعت وتيرة الصراع القاسمي – القاسمي، تنافس ثلاثة من نفس الأسرة على الإمامة، وحظوا بمبايعة أغلب الأنصار، تنحى كبيرهم (يوسف بن المتوكل إسماعيل)، فانحصر الصراع بين اثنين منهم: محمد بن إسحاق، الذي جدد دعوته وتلقب بـ (الناصر)، والحسين بن المتوكل القاسم، الذي أعلن نفسه إمامًا، وتلقب بـ (المنصور)، وكان النصر بعد حروب وخطوب حليف الأخير.
اعتزل العلامة ابن الأمير الصنعاني ذلك الصراع، وتَوجه في أواخر ذات العَام إلى مَكة المكرمة، ثم إلى الطائف، ومَكث فيهما مُدة يسيرة، ثم كانت عودته الى شِهارة، وآثر في الأخيرة البقاء لثمانية أعوام، هروبًا من بطش الإمام المُنتصر، أرسل له الأخير – في مطلع العام 1141هـ – بمكتوب أمان؛ فرد عليه بعدة رسائل، توزعت بين النقد لجوره، والنصح له بإحسان.
كان المنصور الحسين – بشهادة كثير من المُؤرخين – ظالـمًا، غشومًا، مُذلًا لمعارضيه، تمامًا كأبيه، أشار العلامة ابن الأمير الصنعاني إلى ذلك بقصائد ومُكاتبات شهيرة، وهي بشهادة كثيرين ثورة كبرى على تلك الأوضاع، كان لها ما بعدها، ومن أشعار الأخير التي تصور ذلك الوضع، قوله:
في دولـــة الملك المنصــور كــم هلكت
بــــنـــادر ومـــخــالــــيـــف وبـــلــدانُ
الشـرق والغـــرب منــها والتـــهايـم بل
والبحــر قــد خافـــهـم في البحر حيتانُ
لا تنـس قعـــطبـــةَ إنْ كــنـت ذاكــرها
فقـــد أبـــاح حـمـــاها قـــبـل قحـــطانُ
كـــذا المــعــاقــل من دمـت ومن جبنٍ
ولـحــج طـــاف بـهــا للحـرب طـوفان
وهـــل نسي أحـد بيــتُ الفـقـيــه وقـــد
صُكـــت بــأخــبــار يـــام فـيــــه أذانُ
كم مـــن عــزيــزٍ أذلــوه وكــم جحفوا
مـالًا وكـــم سُلــبــت خـودٌ وظـبــيــانُ
ناصر السُنة
كانت في العام 1148هـ / 1735م عودة العلامة ابن الأمير الصنعاني إلى صنعاء، وذلك بعد أنْ صفت الأجواء بينه وبين المنصور الحسين، وقد ولاه الأخير الخطابة في الجامع الكبير ذي القعدة 1151هـ / فبراير 1739م، ومن على منبر ذلك الجامع استمر في نشر فكره المُعتدل، ونجح في استقطاب كثير من المغيبين.
توفي المنصور الحسين ربيع الأول 1161هـ / مارس 1748م، وتولى ولده عباس، الذي تلقب بـ (المهدي) الحكم من بعده، وقد عمل الأخير في العام التالي على تقريب العَلامة ابن الأمير الصنعاني منه، وكلفه بالإشراف على الأوقاف، وقد باشر ابن الأمير عمله باقتدار، ثم ما لبث أنْ اعتذر، مُبتعدًا عن مُغريات الحكم، مُتفرغًا لإلقاء الدروس، والكتابة، وقد تجاوزت مُؤلفاته الـ 300 كتاب، موزعة ما بين كتب كبيرة، وصغيرة، ورسائل قصيرة، ومن أشهر كتبه: (سبل السلام)، و(عمدة الأحكام)، و(تيسير النقاد إلى تيسير الاجتهاد)، وله – أيضًا – أشعار كثيرة جُمعت في ديوان.
كان للعلامة ابن الأمير الصنعاني حُسادًا ومُغرضين كُثر، ومن الأسرة القاسمية نفسها، استغلوا قيامه باختصار خطبة الجمعة 5 جمادى الأولى 1166هـ / 9 مارس 1753م، وعدم الدعاء لجدهم (المنصور القاسم بن محمد)، واشتكوه للمهدي عباس، وهددوا بقتله في حال لم يقم ذات الإمام بحبسه، فما كان من الأخير إلا أنْ نفذ طلبهم، وزاد على ذلك بأنْ حبس 30 فردًا منهم.
أرخ ابن الأمير العلامة الصنعاني بإسهاب لتفاصيل تلك الحادثة، وقال أنَّه مكث في قصر صنعاء مسجونًا لمدة شهرين، في حال حسن، ومنزل مناسب، ودخول من يحب دخوله إليه، وأضاف أنَّ السبب الحقيقي لتكالب أولئك المغرضين عليه؛ يعود في الأصل لانشغاله بعلم السنة النبوية، والتدريس فيها، والدعاء إليها، ونشرها فوق المنابر، وميل أكثر الناس إليها، وأضاف أنَّ ذات الاتهام طال المهدي عباس أيضًا، وأنَّهم – أي أولئك المتعصبين – أكثروا في هذا الشأن الأشعار والهذيان، وزاد على ذلك شعرًا نقتطف منه:
وما حبســـــوني أننـــي جئت منكــرًا
ولا أنني نافست في الحكم والكرسي
ولكنـــــــني أحييت شـــــــرعة أحمد
وأبرزتها شمسًا على العُرب والفرس
وقال عن مُعارضيه بشكل عام:
وأنكر منهجي قوم حيارى
رموني بالسهام من الملام
أحاط بهم سرادق كل جهـل
فما يمشون إلا في التعـامي
ومن لبس الجهالة وارتداها
رأى منها المناسم كالسهام
كان ابن الأمير الصنعاني علامة عصره، برع في جميع العلوم، وفاق الأقران، وتفرَّد برئاسة العلم، وعمل بالأدلة والاجتهاد، ووهب نفسه لإعلاء كلمة الحق، وناضل في سبيل ذلك في شجاعة نادرة، وجرت له مع مُتعصبي الزّيدِيّة مناظرات كثيرة، وصلت ذروتها خلال العام 1182هـ / 1768م (عام وفاته)، وهي المحنة التي وقف المهدي عباس فيها إلى جانبه.
قال العلامة ابن الأمير الصنعاني عن أولئك المُتعصبين: «جعلوا الحق تبعًا لأهوائهم، ومايزوا بين الناس بأنسابهم لا بأعمالهم»، فاتهموه بهدم المذهب، وعملوا على تشويه سمعته، ثم ناصبوه العداء، وتآمروا عليه، وهموا بقتله، وهنا شكاهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلًا:
فـــــإني قـــد أوذيــت لنصـرتي
لسنــتك الغـراء في البـر والبحر
وكم رام أقــوام وهمـوا بسفكهم
دمي فأبى الرحمـن نيلي بالضر
وحين لم تنجح مُحاولات مُتعصبي الزّيدِيّة في القضاء عليه، عملوا على مُراسلة القبائل الشمالية، واستثارتها لإنقاذ المذهب الزيدي، فيما تولى القضاة من آل العنسي في برط مهمة التحشيد، عُرف الأخيرون بتشيعهم المبالغ فيه للعلويين، وهم في الأصل ليسوا من رجالات الدين المُلمين بالشرع الحنيف؛ بل كانوا من فقهاء القبائل الذين لا يعرفون إلا لغة التكفير، والسيف، والغنيمة، التصق بهم أيضًا لقبا (البرطي)، و(العكام)، وقيل أنَّهم من سُلالة عبهلة بن كعب بن عوف (الأسود العنسي).
طالب آل العنسي صراحة بإخراج ابن الأمير من صنعاء، ثم بدأوا بشن غاراتهم على تلك المدينة، وضواحيها؛ مُتذرعين بذات السبب، وقادوا القبائل الشمالية بغزوات جنونية، وعاثوا في مُعظم المناطق اليمنية نهبًا، وخرابًا، وعنهم قال ابن الأمير:
قد شابهـوا الكفــار في أقوالهم
للرسل بالتهـــــديد والـــترهيبِ
ولنخرجنــك يا شعيـــب ومثله
قالوا للوط وهـو غير مـــــريب
فلنا برســـل الله أحسن أســوة
ولهم بأهل الشرك شر نصيب
توفي العلامة ابن الأمير الصنعاني في 3 شعبان 1182هـ / 12 ديسمبر 1768م، عن 83 عَامًا، وهو كما أرعب الأئمة السلاليين حيًا، أرعبهم ميتًا، وهذا المنصور محمد حميد الدين (والد الإمام يحيى) قال فيه: «محمد بن إسماعيل الأمير ليس منا أهل البيت»! وظل في المقابل نجمًا مُشعًا في سماء النضال، مُلهمًا لأحرار اليمن التواقين للتحرر من العنصرية السُلالية والكهنوت، وعنه قال المناضل عبدالسلام صبرة: «كان النجم الذي أشرق بنوره على سماء اليمن المظلم، والذي أضاء بنوره الطريق لكثير ممن كتب الله لهم الانعتاق من قيود التقليد الأعمى، والتعصب المقيت».
- نقلًا عن صحيفة (26 سبتمبر)