الأحمدي يكتب | حماس وإيران.. مراجعة واجبة في حقل ألغام
عادل الأحمدي
حينما أطلق إسماعيل هنيّة لقب “شهيد القدس” على الجنرال الإيراني، قاسم سليماني، القائد السابق لفيلق القدس بعد مقتله بقصف أميركي في مطار بغداد، وجد الكثيرون أنفسهم أمام تطورٍ جديدٍ، في قصةٍ كبيرةٍ، ليس من السهل فيها السكوت، وليس من السهل الكلام، وليس من السهل الاختصار.
وقبل أيام، تفاعلت حماس مع مبادرة أطلقها عبدالملك الحوثي يعرض فيها على السعودية إطلاق سراح أسرى، في مقابل إطلاق معتقلين لديها منتمين لحماس.
قوبل إصرار حماس على خدمة إيران، على حساب دماء الملايين من أبناء العراق وسورية واليمن، بإدانات متعددة، بعضها ممزوج بالتماس العذر وتوسلات التغاضي، وأخرى طافحة بالنقمة والسخط. ولدى عودتي لمئات الكتابات التي تناولت العلاقة بينهما، لم أجد فيها الجهد الكافي الذي يستحقه الموضوع؛ إذ تسكنُ حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في أذهان نسبة من أبناء الشعوب العربية، كحالة عاطفية برزت خلال قضية مركزية، وبالتالي يلتمسون مبررات لأخطائها وخطاياها، بينما هي في نظر آخرين، نسخة مشوهة من حركات المقاومة المؤدلجة بنَت حضورها العام، على حساب القضية وصبّ محصولها في الأخير، في شق الصف الفلسطيني لتتحول مع مرور الوقت، إلى رصاصة في مسدس النظام الإيراني، الذي يتخادم بشكل أو بآخر مع الكيان الإسرائيلي، وصارت وفقاً لهؤلاء، منظمة إرهابية تستحق الحظر والمقاطعة.
وبين هذين الرأيين، تسافر هذه التناولة، التي تسعى لتحليل المعضلة إلى عناصرها الأولية ومحطاتها المتلاحقة، ما يستدعي العديد من الوقفات اللازمة حول إيران والقضية الفلسطينية وعلاقة تنظيم الإخوان المسلمين بنظام خميني والمنعرجات التي أوصلت “المقاومة الإسلامية” إلى هذا المآل الصادم.
خميني وفلسطين
رفع نظام خميني منذ انطلاقته في العام 1979، مسألة القدس وفلسطين كإحدى مفردات الخطاب الثوري، ولايزال ماضياً طيلة 40 عاماً على ذات النغمة محدِثاً اختراقات كبيرة في جسد القضية وأطرافها وتعريفها، وهو ما يسوّقه هذا النظام كإنجازات، ويراه آخرون بعينٍ مختلفة. ومثلما تدعي إيران أنها باتت قائدة تيار المقاومة ضد “الاستكبار الأمريكي والكيان الإسرائيلي”، تنهض شواهد عدة وإن كانت أقل ضجيجاً، تضرب مثل هذا الطرح وتنسفه من أساسه. ويمكن إيجاز هذا الرأي بالقول إن إيران أضرّت بالقضية الفلسطينية، عبر مسارين، الأول سياساتها العامة في المنطقة، والآخر تعاملها المباشر في الملف الفلسطيني. وفيما يتعلق بالأول، نجد أن تبعات حربها على العراق، وشروعها بغرس حركات وخلايا مسلحة داخل البلدان العربية تحت ما تسميه “مبدأ تصدير الثورة”، ثم اشتراكها المباشر في غزو بلدان عربية وإبادة وتهجير شعوبها كما حصل في العراق ثم سوريا وحتى اليمن. كل ذلك، لم يكن بالتأكيد في صالح القضية الفلسطينية، بل بالعكس، ألحق بها كامل الضرر؛ إذ أثّر على كونها القضية المركزية للعرب وصرف جزءاً كبيراً من الاهتمام العسكري والسياسي والإعلامي لمواجهة خطر إيران. علاوة على أن طهران عملت على شرخ الإجماع العربي حول القضية الفلسطينية بتقسيم المنطقة إلى محوري ممانعة واعتدال، وهو تقسيم ممعن في المزايدة.
إلى ذلك فإن طهران احتضنت العديد من جماعات التطرف والعنف كالهجرة والتكفير والقاعدة، واستنسخت مؤخرا داعش، كذريعة لتغيير ديمغرافي واسع في العراق والشام، علاوة على زرعها ودعمها عشرات الحركات الباطنية والمسلحة الموالية في أغلب الأقطار العربية. نتج عنها زعزعة أمن المنطقة وإدخالها في حالة استقطاب طائفي حاد بين شيعة وسنة.
وفيما يتعلق بتعاملها المباشر مع الملف الفلسطيني، فلم تتعاطَ إيران مع هذا الملف، إلا من قبيل المزايدة، ووفقا للباحث المصري معتز سلامة فإن إيران “لم تدخل إلى الصراع العربي الإسرائيلي من بوابة القيمة الإضافية لنضال العرب، بل من باب المنافسة عبر احتضان وتبني مسار عسكري موازٍ يتصادم في كثير من الأحيان مع الدولة الوطنية العربية”، وليس مع إسرائيل.
كما أن علاقة طهران بمكونات الداخل الفلسطيني، كانت بمثابة المقص الذي يقطع الأواصر بين هذه المكونات ويعمل على بذر أسباب الخلاف وديمومتها، إلى الحد الذي تجاوز الخطوط الحمراء وتوجّه السلاح الفلسطيني إلى الصدر الفلسطيني. هذا عوضاً عن أن إيران مثلما أسهمت ميليشياتها الطائفية في قتل وتشريد ملايين من العرب في أكثر من قطر عربي، فإنها قد قتلت من الفلسطينيين أعدادا غير قليلة. أولها في لبنان، حيث مذبحة صبرا وشاتيلا، والتي تعد الأكبر في تاريخ المذابح التي طالت الفلسطينيين، ونفذتها عناصر حركة أمل التابعة لإيران، والتي انسلخ منها لاحقاً، فصيل مكوناً حزب الله. ويذهب الكاتب فهمي هويدي، في كتابه “إيران من الداخل”، أن خميني أراد بتخصيص أخر جمعة من رمضان يوماً سنوياً للقدس، تغطية المجازر التي ارتكبتها عصاباته بحق الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا.
عداً ذلك، فإن قتلى الفلسطينيين على يد ميليشيات إيران في العراق، بلغوا 16 ألف قتيل في ثلاث سنوات فقط، وفق مصادر عراقية. وسبق أن نقلت في كتابي “الزهر والحجر” الصادر 2006، تعليق فلسطينيين على الدعم الذي تقدمه طهران لحماس والجهاد الإسلامي، بأنه ليس إلا ديّات الفلسطينيين الذين قتلتهم ميليشيات إيران في العراق.
تخادم فارسي صهيوني
يذهب قسم آخر من الباحثين إلى أعمق مما سبق، ويرون أن نظام خميني، تأسس منذ بدايته للالتفاف على القضية الفلسطينية بعد أن فقد نظام الشاه الحليف التقليدي للكيان الإسرائيلي، قدرته على التأثير في الواقع العربي، وكذلك لاحتواء الزخم الإسلامي المتصاعد الذي لقي سوقاً رائجة بعد تراجع المد القومي بسبب نكسة حزيران يونيو 1967، وبالتالي تمت مساعدة خميني للإطاحة بالشاه وإعلان نظام “إسلامي” قام منذ اليوم الأول بإغلاق السفارة الإسرائيلية وتسليم مفاتيحها لمنظمة التحرير الفلسطينية، واتخذ من تحرير القدس شعارا، إلا أن تطورات متلاحقة جاءت تشير بمجموعها إلى أن العلاقة بين طهران وتل أبيب ظلت بعد ثورة خميني كما كانت عليه أيام الشاه، وأن كل الذي تغير هو الخطاب وملابس الحكام. والدليل على ذلك، تقول وجهة النظر، أن إسرائيل قامت بضرب المفاعل النووي العراقي في السنة الأولى من الحرب، ترجيحاً لكفة إيران، لكنها لم تمس مفاعل بوشهر النووي بسوء، بل لايزال الملف النووي الإيراني يستعمل إلى اليوم، كفزاعة لابتزاز الجوار العربي وتسهيل التواجد العسكري الغربي.
وفي منتصف الثمانينات كانت فضيحة “إيران كونترا”، دليلا إضافيا على زيف العداوة بين الحاخامات والملالي، حيث اشترت إيران من أمريكا أسلحة بواسطة إسرائيل. وكما أسلفنا فإن تبعات الحرب الإيرانية على العراق قد أدت لسلسلة شروخ وخسائر في الصف العربي، بينما بلغ التخادم الإيراني الإسرائيلي ذروته عقب الغزو الأمريكي الإيراني لبغداد 2003، حيث امتلأ وسط وشمال العراق بالشركات الاستثمارية الإسرائيلية، كما تفاضَحَ العديد من النواب العراقيين الموالين لطهران في أكثر من مناسبة بأن زياراتهم إلى تل أبيب لم تنقطع. وبالتزامن اتخذ بنيامين نتنياهو قرارا يشدد على منع نشر أي تفاصيل تتعلق بالتعاون الاقتصادي والعسكري والكيمائي مع إيران، لاسيما بعد فضيحة التاجر الإسرائيلي ناحوم منبار المتهم بتصدير مستحضرات كيمياوية إلى إيران، وهي القضية التي أثارها المحامي أمنون زخروني، الذي أراد أن يثبت أن منبار ليس الوحيد.
وبالعودة أكثر إلى الوراء، فإن نتنياهو نفسه، يذكر في كتابه “مكان تحت الشمس”، أن اليهود لا يزالون يحملون امتناناً عميقاً لإيران لأن الفرس أنقذوهم من السبي البابلي أواخر القرن السادس قبل الميلاد، وهو الأمر الذي يوضحه أكثر، اللواء المتقاعد مروان العمد، الذي يقول إن إسرائيل أطلقت اسم الملك الفارسي “كورش” الذي حرر اليهود من السبي البابلي على أحد شوارعها، وأن منظمة صهيونية غير رسمية صكت، مؤخرا، عملة رمزية رسمت على وجهها الملك الفارسي كورش وفي الوجه الآخر رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب بعد قرار الأخير نقل سفارة بلاده للقدس، تعبيرا عن الامتنان للرجلين. عدا عن احتفال سنوي يقيمه اليهود والفرس في 29 أكتوبر تشرين الأول من كل عام، إحياءً للمناسبة. ويضيف اللواء العمد، في مقالة له بوكالة عمون، أن معاداة العرب هي السمة المشتركة بين الفرس واليهود، مستشهداً بمقطع فيديو لقاسم سليماني، يصف فيه العرب بأنهم بدوٌ همج. ويضيف العمد أن جزءاً من شيعة إيران لا ينظرون للقدس كما ننظر لها نحن، بل يعتبرون القدس التي أسري اليها النبي عليه الصلاة والسلام، موجودة في الجنة!
كل شيء وارد لدى نظام يعتبر التقية تسعة أعشار الدين. ولقد عاينت بنفسي أثناء مشاركتي بالأعوام الماضية، بمؤتمرات وندوات في جنيف وبروكسل وباريس، كيف يعمل اللوبي الإيراني والإسرائيلي كفريق واحد، لتبييض جرائم الحوثي ورمي اللائمة على التحالف العربي والحكومة الشرعية. وشواهد أخرى تجعل ممن يريد نفي التخادم الإسرائيلي الإيراني كمن ينكر الشمس في عز الظهيرة.
حماس وإيران
يتطلب الحديث عن علاقة حماس وإيران، التعريج سريعاً على علاقة الإخوان التنظيم الأم لحماس، بإيران خميني. ومعلوم أن طائرة وفد الإخوان المسلمين كانت ثاني طائرة تحط في مطار طهران بعد طائرة ياسر عرفات، لتهنئة الخميني بنجاح “الثورة”، وهم كـ”حركة إسلامية”، اغتروا بمسمى “الجمهورية الإسلامية” واعتبروها نصراً مبيناً، في حين تنبّه أبو عمار ومنظمة التحرير سريعا، لكون إيران ليست سوى فخّ للقضية الفلسطينية لا أكثر. وفي ذات السياق تقول مصادر إن عدداً من قادة الإخوان اعترضوا على ذلك الوفد، وحذروا من الثقة بنظام خميني، ومن هؤلاء مراقب التنظيم في سوريا سعيد حوى، وكذلك محمد سرور زين العابدين الذي انشق مكوناً تنظيماً خاصاً به، وحتى أحمد ياسين مؤسس حركة حماس، إذ يذكر موقع ويكيبيديا أنه هدّأ من جذل رفاقه الذين فرحوا بثورة خميني.
وقد ظل أداء الماكينة الإعلامية الإخوانية في أغلبه مساندا لإيران أثناء حربها على العراق كما دخل إخوان العراق بقيادة محسن عبدالحميد في ائتلاف حكومي مع الأحزاب الموالية لطهران بعد إسقاط نظام الرئيس صدام حسين، وكانوا عبارة عن محلّل “سُنّي” داخل الحكومة الطائفية، يُذبًح الشعب ويذبح أتباعهم أمام أعينهم، دون أن يحركوا ساكنا. ثم جاءت الثورة السورية لتكون منعطفاً هاماً أدرك معه قطاع واسع من الإخوان أن إيران ليست حليفاً، تلاه موقف إيران من ثورة 30 يونيو التي عُزل بموجبها الرئيس الإخواني محمد مرسي في مصر العام 2013. لكن يبدو أن هذا التوتر بين الإخوان وطهران، خفّت حدته بعد لقاء كُشف عنه مؤخرا، ضم قادة في التنظيم مع قاسم سليماني في اسطنبول 2014، في وقت كانت المجازر في سوريا على أشدها.
وبالنسبة لحماس فإن باحثين يؤكدون بأن نشأتها نهاية العام 1988، كانت بمعزل عن إيران، مستدلين بأن الأخيرة لديها حركة أسستها وهي الجهاد الإسلامي، ولكن طهران مع مرور الوقت، تحكّمت بالجماعتين، بعد أن وجدت الطريق سالكاً.
وقد بدأت العلاقة في العام 1990، بمشاركة وفد من حماس في مؤتمر بطهران حول القضية الفلسطينية، تلاه افتتاح مكتب للحركة بإيران بالعام 1991 برئاسة عماد العلمي، الذي يُوصف بأنه مهندس العلاقة وعرّابها، ويضيف الصحفي الفلسطيني محمود هنية بمقال له بموقع “الميادين” الموالي لإيران، أن “العلمي تربطه ربما، علاقات روحية بالمسؤولين في إيران لأن جذوره تمتد إلى النبي صلى الله وعليه وسلم”. وفي العام 1992 نشأت أواصر شخصية بين قياديين من حماس وآخرين من الجهاد الإسلامي وحزب الله، وذلك في مخيم “مرج الزهور” جنوب لبنان وفقاً للكاتبة الأردنية إحسان الفقيه، التي تسرد مثالين لرفض القيادي الحمساوي محمود الزهّار، طلبات إيرانية رافقت الدعم، مبرهناً بذلك أن حماس لن تقبل إلا دعماً غير مشروط.
وعلى ما يبدو، فإن نهج الزهار لم يتواصل، إذ وصل تماهي حماس مع إيران أقصى حدوده، من تبني معارك طهران وصولا إلى تقليد جزء كبير من قادة الحركة للنمط الإيراني ومنها التخلي عن ربطة العنق كمثال بسيط.
في العام 1993، باتت إيران تعتبر حماس ممثلاً للشعب الفلسطيني، وفي العام 2006، التقى رئيس المكتب السياسي السابق للحركة خالد مشعل نجل خميني، وصرح يومها أن حماس “هي الابن الروحي للإمام الخميني”.
في العام 2011، شهدت العلاقة تحوّلاً بسبب الثورة السورية وتم نقل المكتب السياسي للحركة من دمشق إلى الدوحة، وزاد تأزّم العلاقة في العام 2016، بسبب تضييق حماس الخناق على “حركة الصابرين” التابعة لإيران، والتي أسسها هشام سالم وهو قيادي انشق عن حركة الجهاد الإسلامي، وكرس حركته لنشر التشيع في غزة. ثم ما برحت العلاقة أن عادت بشكل سريع بعد انتخاب يحيى السنوار قائداً لحركة حماس داخل غزة، وتعمدت بذهاب وفد من الحركة لتعزية قاسم سليماني بوفاة والده، ثم لتعزية علي خامنئي بمقتل سليماني، وقبل ذلك لقاء نائب رئيس المكتب السياسي للحركة، صالح العاروري مع خامنئي. وللعاروري تصريح يقول فيه إن حركة حماس “هي خط الدفاع الأول عن إيران”، وقد علّق القيادي في حركة فتح، حازم أبو شنب، بأنه لا ينبغي لأي حركة تحرر وطنية أن تدافع عن غير فلسطين. وبعد سليماني ظهر خلَفُه في قيادة الحرس الثوري وفي الخلفية أعلام القوات الإيرانية وأذرعها بالمنطقة، بما فيها حماس وحزب الله والحوثيون.
علاقة في الميزان
أثناء المقابلة بين الضرر الكبير الذي تلحقه إيران بالقضية الفلسطينية، بل والوضع المعادي التي نشأت بموجبه دولة الملالي، والملايين الذين قتلوا بنيرانها وهجروا بسبب أذرعها في أكثر من قطر عربي، أثناء المقابلة بين كل ذلك، والارتماء الحمساوي في أحضان طهران، تكمن المعضلة ويبرز السؤال الكبير: هل حقاً باتت حماس خلية إيرانية خالصة؟ أم أنه، وفقاً لمن يحاول التبرير لها، “حلف الضرورة” بسبب ما يوصف بأنه تخلي الأنظمة العربية عن تقديم الدعم، وأنه تحالف مصالح بفعل الدعم الذي تقدمه إيران للحركة. ويستدل هؤلاء بأن حماس كانت قد نفضت يدها عن إيران، عندما شعرت بأن المنطقة ستتغير لصالح الإخوان أثناء ما عُرف بـ”الربيع العربي”.
وفي تقديري أن الحقيقة التي يمكن التأكيد عليها، هي أن كل المبررات التي يمكن حشدها لا تجيز لحماس كحركة مقاومة في بلد محتلٍ، أن ترتمي في يد المشروع الفارسي وأن تحرق تضحيات شهدائها في مواقد نيران الفرس، وأن يحوّل قادة حماس لحاهم إلى مماسح تغسل خناجر الملالي المضرّجة بدماء ملايين العرب. فلماذا حدث مثل هذا؟
إن من يتصدر العمل السياسي والنضال الوطني دون أن يقرأ التاريخ ودون أن يحترم نضالات الآخرين، ينجرّ شيئاً فشيئاً من خانة المبادئ إلى خانة المصالح حتى يصبح من حيث لا يدري، بيدقاً بيد العدو، كنتيجة للمزايدة ومحاولة احتكار الطهر الثوري. والقضية الفلسطينية بطبيعتها لا تحتمل المزايدة، لا بين فتح وحماس ولا بين تونس والرباط، ولا بين إسلامي ويساري، ولا بين مسلم ومسيحي. إنها قضية يعمل لها الجميع، تنظيمات وأنظمة وأشخاصا، كلّا حسب طاقته ووفقاً للمتاحات المتوافرة أمامه. لا ينبغي لنظام سياسي أو مكون حزبي ادعاء المبرّة بفلسطين دون سواه، والتفاوت هو في النسبة والأسبقية، ولاتزال مصر، دولةً وشعباً، هي الأعلى كعباً والأطول باعاً، ولاتزال تُدرس في الكليات العسكرية الإسرائيلية بوصفها العدو الاستراتيجي الأول أيّاً كانت وتيرة العلاقات. وغير بعيد عنها، جهود جبارة بذلها أشخاص وأنظمة على طول الوطن العربي وعرضه، أمثال ابن الناصرة وليد سيف، أو ابن الجولان حاتم علي، أو ابن دمنهور عبدالوهاب المسيري، أو ابن الدرعية فيصل بن عبدالعزيز، أو عبدالحي زلوم، يحيى عياش، فيروز، محمود درويش، خليل حاوي.. كم ذا سنعد وكم ذا سنعدّد.
والحق أنه لا يحق لأي مكونٍ فلسطيني، حماس أو غيرها، أن يضع يده بيد نظام ينصب مزاراً كبيراً لقاتل عمر فاتح بيت المقدس. نظام مسؤول عن قتل ملايين العراقيين والسوريين واليمنيين بل والفلسطينيين. كما لا يستقيم لهذا المكون أن يبرر فعلته بأنها من باب حلف المصالح، إذ ما الفائدة من أي مصالح تقضي تماماً على المرتكزات والمبادئ ومبررات الوجود؟! لماذا الإصرار على أن يظلوا مربوطين بأمعائهم إلى نظام ثيوقراطي عنصري يتخادم مع عدوّهم المقيم، ويعمل على تفتيت بيتهم الكبير، وبأيديهم أن يتركوا هذا التحالف ويراجعوا أسلوبهم في إدارة علاقاتهم بالمجتمعات والأنظمة التي يربطها بهم نفس الخندق والمصير، وما الربح من سياسة الفرار من فرعون إلى هامان، أو حسب تعبير الكاتب العراقي صلاح المختار “من إسرائيل إلى إسرائيل الشرقية”. خذوا كلام الكبار ودعوكم مما يطرحه بعض مثققي الطفرة أمثال ياسر أبو هلالة، أو بعض منظّري الارتماء المشين أمثال محمد مختار الشنقيطي، وغيرهما ممن يصورون إيران وكأنها “شجرة الخلد وملك لا يبلى”.
إن الدماء التي سالت في الرمادي على يد الإيرانيين، هي أضعاف ما ارتكبته الآلة الإسرائيلية في حق الفلسطينيين، ومساحة الرمادي تناهز فلسطين، ولم تتوقف آلة الموت والإبادة الإيرانية عند الرمادي بل استمرت وامتدت حتى نالت أكبر الحواضر البشرية في المنطقة الموصل وحلب وتعز. وهذه المقارنة لا تقلل بنظرنا من بشاعة الصهاينة، ولا من مكانة فلسطين، لكنهم عدو واضح بينما إيران تقوم بهدم البيت الكبير ونخر أساساته، وثمة من يواليها من أجل غُرفة لن يبقى لها إذا انهدّ البيت، أرضيةٌ ولا سقف.
لا.. ليس هيّناً ما فعله هنيّة ورفاقه، ولا ينبغي التماس الأعذار واختلاق المبررات، ذلك أن ما تقدمه حماس لإيران هو أكثر بما لا يقاس مما يمكن لطهران أن تقدمه لحماس. لقد كسبت هذه الحركة مجموعة من المجرمين وخسرت سندها من المجتمعات العربية التي كانت تدعمها من جميع أنحاء العالم، وأحدثت شرخاً موجعاً في جدار القضية. وقد علّق الكاتب اليمني غائب حواس على مشاركة اسماعيل هنية في مراسيم دفن قاسم سليماني بالقول إن الإيرانيين “أحيَوا سليماني وهو أشلاء متفحّمة في النعش، وقتلوا إسماعيل هنية وهو حيٌ يمشي على الأرض في جنازة سليماني”.
إن كان ثمة تصحيح وعودة للتلاحم من جديد مع رام الله والقاهرة والرياض، والتخلي عن أن يكونوا بيدقاً بيد إيران أو كرَةً تتقاذفها خلافات العواصم العربية، فإن في الوقت متسعاً للتكفير والتناسي، أما إذا دفعتهم المكابرة للاستمرار على ذات الطريق، فقد أهالوا التراب على تجربة مؤسفة، لن يتوقف بعدها نضال “الجبّارين” ولن تتشرّد بعدها القضية.
القدس ليست ميداليةً يعلّقها إسماعيل هنية على نعش سفّاح، وليست سفارةً ينقلها رئيس متقلّب المزاج. ليست حصّالةً في جمعية خيرية، أو بنداً في مسودّة اتفاقيةٍ مستحيلة التنفيذ. ليست مفردةً يلُوكها مذيعٌ في ما وراء الخبر، ولا هي يوم يُزايد فيه أتباع الملالي نهاية كل رمضان. القدس هي هذا القبس الذي يربط الوجدان الممتد من الماء إلى الماء، هي التكثيف الأبرز لثلاثية الأنبياء والأرض والزمن.. هي هذا الميثاق الهاتف داخل كلّ قلب: أن كلّ دمٍ حرامٌ، وأن كلّ مدينةٍ قُدس.
- رئيس مركز نشوان الحميري للدراسات والإعلام