قراءة في “اليمن الجمهوري” لعبدالله البردوني

د. لمياء الكندي *

تتداخل الخيوط الإنتاجية التي خلفت نسيج متمايز ومختلف للروح الإبداعية الشاعرة والناقدة للشاعر الكبير الأستاذ “عبد الله البردوني”، ففي كتابه اليمن الجمهوري تبرز شخصية البردوني الثقافية والأدبية ومنطلقاته الفكرية التي كانت وليدة التجارب العديدة التي مر بها كاتبنا، وكانت خلاصة تجربته المعرفية في عالم الفكر والسياسة والثقافة العربية بوجهها التاريخي والفكري والسياسي المعاصر ومعايشته لها.

فيما يقارب الخمسمائة والأربعين صفحة ومن خلال أحد عشر فصلا تمكن البردوني من تعقب حركة التاريخ المعاصر لليمن وتدوين حضوره كشاهدٍ فيها ومنتميا لما مر به هذا التاريخ من تجارب النجاح والإخفاق على حدا سواء.

انطلق البردوني في كتابه هذا بتتبع سريع لحركة التاريخ في اليمن تمكن من خلالها أن يضع القُراء أمام تصور عام لهذه الحقب التي تمتد من العهد السبئي إلى تاريخ ما بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وما تخلل هذه الفترة من تحولات سياسية وفكرية كان لها أكبر الأثر في تكوين اليمن المعاصر.

ويعتبر البردوني القرن التاسع الميلادي بداية لتشكل نواة المدرسة الفكرية اليمنية، تزامناً مع تأسيس المذهب الزيدي وظهور يحيى بن الحسين الرسي، ومن هنا نشأت الزيدية، على أساس ديني وسياسي، واثبتت حضورها السياسي والاجتماعي في اليمن ككيان فكري وديني امتثل في الإمامة ودعوتها الصريحة للحكم.

لقد افرد البردوني في كتابه هذا صفحات عديدة، للحديث عن الجدلية التي تسببت فيها الزيدية من المنظور الفكري والسياسي، لذلك اشتغل المتجادلون بمختلف فئاتهم في صعدة وصنعاء بالباطنية وأخطارها وأسرارها، ويرى البردوني أن عنصر الجدلية الفكرية كان منضوي تحت ضوضاء الدعاية السياسية، كجدل الأصوليين والهادويين والمعتزلة وغيرهم من الباطنيين، وقد نتج عن هذه الجدلية أن أصبحت الثقافة الإمامية سيدة الميدان سياسيا وكثيرة الخصوم فكريا.

ويرى البردوني أن الخطوط الجدلية التي ظهرت إبان القرون الأولى المرافقة لعهود تسلط الإمامة أعادت تشكلها وظهورها من جديد إبان الأربعينيات من القرن الحادي والعشرين وإن اتخذت أشكال وتعابير مخالفة عن السابق، بحيث اتخذت الآداب عنوانا لها والتعبير عن ذاتها، وكان الأدب معززا للثقافة الفقهية السائدة وأكثر تناولا وحضورا منها، وكانت كلا من صنعاء وعدن الحاضنة لهذه الجدلية قد اتخذت مناحي سياسية مغايرة عن العهود السابقة، وكانت بداية لتأسيس العهد الثوري ضد الإمامة.

وتحت عنوان تعدد الخطوط الجدلية في الأربعينيات مضى بنا البردوني نحو قراءة واعية وناقدة للمناخ الفكري والسياسي في اليمن وتعدد أوجه الخلاف بين السلطة ومشروعيتها، وبين رعيل الإصلاح الأوائل، وشباب الثورة فيما بعد، ومن هنا تعالت الأصوات المطالبة بالجمهورية نتيجة لشدة الحماس عسكريًا وشبابيًا عليها.

وذهب البردوني إلى الحديث عن التحولات في الشطر الجنوبي والشطر الشمالي ومقومات الثقافة والسياسة التي عبرت عن روح المرحلة في هذه الفترة من عمر اليمن قبل الثورة وبعدها.

وانطلق البردوني في كتابه هذا إلى الكتابة النقدية التي تعقبت مراحل ظهور وتطور الحراك السياسي والتنظيمات الفكرية والسياسية الناشئة في فترة الأربعينيات والخمسينيات وما بعدها، وافرد الفصل الرابع من هذه الدراسة لتتبع ظهور وأنشطة الاتحاد اليمني من 1942- 1972م كتنظيم سياسي عرف باسم الجمعية اليمنية الكبرى في بداية تأسيسها،  وتم تحويل اسمها فيما بعد إلى الاتحاد اليمني عام 1952م، وكان هذا التحول ناتج عن الإرهاصات السياسية التي نتجت عن فشل ثورة 1948م، وما رافق ذلك من تطورات سياسية ناتجة عن تحولات الفكر والثورة في الوطن العربي، خاصة بعد نجاح ثورة يوليو في مصر 1952م وما أتاحته تلك الثورة من نفس ثوري تطلعي نحو التحرر والتغيير.

لقد كرس البردوني في فصول الكتاب من الفصل الثاني وحتى الثامن جهوده في رصد وتعقب مسار الحركة الوطنية والتنظيمات الفكرية والسياسية التي نشأت عنها ورصد مختلف الأدوار الداعمة لها والانتفاضات والانقلابات التي تعرضت لها سلطات الإمامة في هذه الفترة، وهو ما جعلنا نعتبر هذا الكتاب دليلًا تاريخيًا نحو معرفة متغيرات التحول السياسي والاجتماعي في اليمن، وتطورات السياسة والتاريخ فيه، ولعل أبرز سمات هذه المرحلة ظهور التيار الطلابي كتيار ثوري متنور. 

ففي الفصل الثاني وتحت عنوان “تفجرات المناطق”، قدم لنا البردوني تصورا عن الأوضاع السياسية والاجتماعية إبان فترة حكم الإمام يحيى، والتي تميزت بعدم الاستقرار والسخط الشعبي الذي انعكس على شكل ثورات وانقلابات وتمردات قبلية شملت أكثر من منطقة يمنية، بحيث استمر الصراع بين القبيلة كسلطة مجتمعية وبين الإمامة كسلطة حاكمة بشكل دائم.

وكانت حركة حاشد الأولى ضد الإمام يحيى، بقيادةكلًا من يحيى شيبان مسؤول الزكاة في حجة والشيخ ناصر الأحمر سنة 1919م -أي بعد قيام مملكة يحيى بن حميد الدين بعام وأحد- من جلاء الأتراك عن اليمن، فقد اتفق يحيى شيبان مع الشيخ ناصر بن مبخوت الأحمر على إشعال ثورة من حجة تمتد فتغطي الشمال الغربي، ثم تطبق على صنعاء فتجبر يحيى بن حميد الدين على الاعتزال إن لم يرضخ ويقوم بتطهير جهاز حكمه الفاسد، غير أن الإمام يحيى اكتشف المخطط وقام باعتقال يحيى شيبان أثناء تواجده بصنعاء فقام بالثورة نيابة عنه اخوه محسن شيبان بحجة عام 1919م، وقد بعث الإمام يحيى فريق من المشائخ إلى حجة للمصالحة والاتفاق مع الثائرين، وإيهامهم بنيته بالإصلاح والاتفاق،  وفي نفس الوقت سيَّر جيشا كبيرا بقيادة ابنه أحمد لقمع تلك الثورة والقضاء على حركة ابن شيبان والأحمر.

ويرى البردوني أنه بحركة شيبان والأحمر كانت نقطة بداية وخاتمة نهاية لأنها شكلت الأرومة للحركات الوطنية المتسارعة فكانت بداية لما ترتب عليها من حركات.

أما الحركة الثانية لقبيلة حاشد فكانت في 1959 بقيادة الشيخ حميد بن حسين الأحمر الذي شكل تجمعا قبليا مشيخيا يحل محل الإمامة مستغلا سفر الإمام أحمد بن حميد الدين إلى إيطاليا للعلاج، ففشل هذا التحرك برجوع الإمام أحمد وإعدام حسين الأحمر، ويرى البردوني أن حركة حاشد وما توالد عنها من انتفاضات قد تنامت عوامل الثورة الشعبية، لكي يثور الشعب نفسه بنفسه.

وكانت انتفاضة المقاطرة في الحجرية تعبيرًا عن حالة السخط الشعبي الرافض لحكم الإمام يحيى عقب تسلمه السلطة من العثمانيين الأتراك، فرفضت في عام 1920 -1921م الرضوخ لسلطة الإمام يحيى والتسليم له فبعثت السلطات الإمامية الجيوش لقمع حركة المقاطرة، ومرت المعارك الإمامية باتجاه المقاطرة من عزلة الأكاحلة في الحجرية ومنها إلى بعض المناطق كـ” الأحكوم وحدود الأشبوط”، وبدا الزحف على المنطقة الشرقية (الزعيمة المدجرة، الأشبوط، الزعازع)، ومنها توالى إسقاط المناطق باتجاه قلعة المقاطرة بعد أن اطبقت الجيوش الإمامية الحصار على (قلعة المقاطرة وحصن الثميدني) بعد أن تكاثرت الجيوش الإمامية مزودة بالمدافع السريعة والقوات الكبيرة والخيانات المريرة التي  كانت سببا في سقوط القلعة  والتي أشار إليها الشاعر بقوله:

قل لابن حسان ذي خان المواثق والعهود

وسلم القلعة أمير الجيش يمليها زيود

ويرى البردوني أن انتفاضة المقاطرة كانت من أروع الانتفاضات المحلية ضد الإمام يحيى، لما حظيت به من دعاية واهتمام، ومن تناول شعبي ورسمي وأدبي حول أحداثها.

وبعد خروج الأتراك من اليمن بقي “الزرانيق”، في الحديدة غير قابلين ولا معارضين لسلطة الطاغية يحيى، غير مبدين ولاء ولا  متمردين عليه، وإنما بقوا في مناطقهم غير قابلين وغير معارضين وعندما اتجه الإمام يحيى إلى تثبيت سلطته في مناطقهم، في العقد الثاني من القرن المنصرم قاوموا نفوذ الإمام يحيى بكل أشكال المقاومة واندحرت الحملات الإمامية الأولى القادمة إليهم، وخشي الإمام من امتداد نفوذهم وسيطرتهم على الحديدة كونها شريان اليمن الاقتصادي فقام بإرسال حملة قوية لإرضاخهم 1926م وتلتها حملة أخرى في 1927م، وقد أباد الزرانيق الحملة عن آخرها، وكلف الطاغية يحيى ابنه أحمد أمير لواء حجة مهمة القضاء على تمرد الزرانيق بقيادة أحمد الفتيني، واستمرت معارك أحمد بن يحيى مع الزرانيق من 1928 إلى 1929م، سقط فيها مئات القتلى من الطرفين وانتهت بدخول ولي العهد أحمد معقل الزرانيق ( بيت الفقيه)، وتمكنت عقبها القوات الإمامية من إنهاء تمرد هذه القبائل بمساعدة بعض الأسر الهاشمية من بني البحر وآل منصر وغيرهم، إضافة إلى الدعاية التي رافقت مسار الجيوش الإمامية واطلاق الإمامة على قادة المقاومة في الزرانيق تهم العمالة للإنجليز ما أثر عليهم شعبيا ومنح سلطة الإمام تعاطف شعبي أوسع، إضافة إلى طول أمد الحصار الذي تعرض له الزرانيق من قبل جيش الإمام، وجميعها عوامل ساعدت في إخماد تمردهم. 

وفي الأربعينات فطن رجال الإصلاح إلى مهمتهم في التحرر من سلطة الإمامة وبادروا في المساعي إلى تصحيح مسارها، عبر العديد من الأعمال كان أهمها محاولة لانقلاب ضد الإمام يحيى 1948م، فيما عرف بثورة الدستور، وعلى الرغم من فشل هذه المحاولة إلا أنها أسست لمرحلة مهمة من مراحل النضال الشعبي ضد الإمامة، وكان الزبيري ورفاقه قد فطنوا إلى متطلبات المرحلة فأولوا أنفسهم مهمة الإيقاظ التي تجمع بين الإيقاظ الديني والسياسي، وعلى إثر ذلك تم تشكيل الجمعيات والأندية الأدبية والسياسية المعارضة. وواصل العمل الإصلاحي دوره تحت مظلة الجمعية اليمنية الكبرى التي أعدت لانقلاب 48.

ويرى البردوني أن الجمعية قد نجحت وأخفقت في وقت واحد، نجحت في مقتل الإمام يحيى، وفشلت في إقامة سلطة بديلة قادرة على البقاء، اذ بعد عشرين يوم من تاريخ الانقلاب تمكن ولي العهد أحمد من دخول صنعاء واسترداد سلطة أبيه وسجن ومحاكمة جميع المتورطين فيه.

لقد أثبتت كافة الانقلابات والتمردات والثورات التي تقدمت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، قدرة أبناء هذا الشعب على صناعة التحول والتغيير ورفض سلطة الإمامة المستبدة فكانت حركة 1955م، على الرغم من محدوديتها تعبر عن حالة من حالات التصدع الداخلي في البنيان السلطوي للحكم الإمامي؛ وكنتيجة من حالة الغليان الشعبي ضد حكم الإمامة شهدت الساحة اليمينة تحول في عقيدة الولاء والبراء التي تعمدت الإمامة غرسها في نفوس اليمنيين فأصبحوا أكثر ادراكًا بضرورة الخروج من عباءة الكهنوت الإمامية والإنطلاق نحو فضاء التحرر والجمهورية، وفي ذلك يقول الزبيري:

الملايين العطاشى المشرئبة

بدأت تكتسح الطاغي وصحبه

في إشارة إلى المظاهرات الطلابية سنة 1961م، واتساع قاعدة الرفض الشعبي للإمامة، ويرى البردوني بأن الأحداث كانت تتجمع كالسحب الحبالى حتى انفجرت كلها ليلة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م، وجاءت هذه الثورة العسكرية كصدى شعبي لكل القطاعات اليمنية، مؤسسين بتلك الثورة أهم مبادئ الثورات الحديثة المتمثل في التحرر من الاستبداد والاستعمار وقيام نظام الحكم الجمهوري.

ولقد أفرد البردوني الفصول الثلاثة الأخيرة من كتابه اليمن الجمهوري للحديث عن ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، والخيوط التي تدفق منها، واضعا العديد من الأسئلة التي بحثت في واقع الثورة ومآلاتها السياسية والاجتماعية، وتعقب التحولات التي رافقتها بشقيها السلبي والإيجابي. 

وتحت عنوان “التساؤل الثوري واستمرار الثورة”، يتساءل البردوني بعد مضي تسعة أعوام على قيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر ماذا حققت الثورة؟، وهل اجتازت موروثات العهد البائد؟، معتبرًا هذا التساؤل مشروع كثورة دائمة، ويرى البردوني أن دعوات التصالح مع الإمامة دون تحقيق أهداف الثورة 1970م، شكل ظهور جديد لتحالف القوى التقليدية على الثورة كي يبقى الحكم الجمهوري بلا ثورية.

وينطلق البردوني في الفصل العاشر إلى دراسة ما عبر عنه بـ ” مشاكل اليمن الجمهوري”، ناقش من خلاله الأخطاء الموروثة التي واجهت حكومة الثورة وبعض المسارات المرافقة لها كالديمقراطية “كإعلان وممارسة”، وقضية الوحدة بين الشطرين.

في حين يختم البردوني الفصل الاخير من هذا الكتاب باستطراد تاريخي وسياسي حول رؤساء العهود الجمهورية في إشارة إلى فلسفته الخاصة حول قيام عدة جمهوريات تم ربطها بأحداث معينة وسمات محددة بداية من الجمهورية الأولى وحتى الرابعة.
 

  • المصدر: مجلة “العميد” – العدد 1

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى