الزعيم والحضور المكثف في الوجدان
الزعيم والحضور المكثف في الوجدان
سيف المرادي
الخالدون والاستثنائيون وحدهم في التاريخ من يتركون أثراً خالداً في الوجدان العام أو في النسق الثقافي وبحيث يحدث ذلك الأثر تحولاً ويحدث ثورة حقيقية تتغاير عن ماضيها وتبدع نفسها ولنفسها طريقاً جديداً دالاً عليها ولا يمكنه أن يحمل قسمات الآخر.
لا يرتبط فبراير عندي إلا بالقيمة التحولية التي أحدثها ذلك التقليد الذي أحدثه الرئيس اليمني الزعيم علي عبدالله صالح في تسليم السلطة من خلال رمزية العلم، والتقليد في حد ذاته والصورة بكل جلالتها كانت كافية أن تخلّد نفسها في ذاكرة الاجيال التي شاهدت ذلك الحدث وعاشت تفاصيله..
وأذكر أنني كتبت حينها أن الزعيم علي عبدالله صالح يقود ثورة حقيقية من خلال ترسيخ تقاليد جديدة في التداول السلمي للسلطة ومن خلال الاعتزاز بالقيم والمبادئ والتمسك بجوهر النظرية الاخلاقية العربية وهي النظرية التي نالها من التحلل والتفكك في زمن أدعياء الثورة ما نالها الى درجة النكوص والعدمية.
لقد انتصر الزعيم علي عبدالله صالح على خصومه السياسيين بالقيم النبيلة وبالبعد الأخلاقي وحده، وانتصر للثورة من خلال ذلك التأسيس لتقاليد الانتقال وهو المبدأ الكبير الذي سيكون له حضوره في المستقبل، وإن تجاهلته الانفعالات والخصومات وحالات التربص والخوف من المستقبل عند الكثير من الكيانات السياسية أو رموز الفعل السياسي لأسباب ذاتية محضة ندرك أهواءها وأبعادها وطموحها.
ولذلك نقول مع البردوني إن من علامة عظمة كل حدث وإنسان أن تتكاثر حوله الأقاويل وذلك بفضل ما أحدث من هزة في النفوس وفي الزمن، لأن العادي من الناس والأحداث لا يحرك فماً لأنه لا يلفت انتباهاً.
ولعل حالة الفوضى التي وصل اليها الخطاب الاعلامي دالة على ضبابية النفوس وعلى عدم يقين القائمين بتلك الرسالة الاعلامية بصدقها، فالتعامل الأخير مع الأحداث والمناسبات كان تعاملاً غير مقنع وفجاً ويشعر المتابع أن الوظيفة لا المهنية والحقيقة هي الدافع والمحرض وراء كل الاعمال التي أرضت الحاكم في ظاهر شكلها ولكنها لم ترض المحكومين في مضمونها وفي جوهرها ولذلك لم تترك أثراً بدليل تدفق الجماهير الى الشوارع وعودتها الى الساحات، فالجماهير – كما يرى البردوني- لا تؤمن بالدعاية التي لا تقوم على أساس من الحقيقة وإنما تؤمن بما تسمع في الليل وتراه عياناً تحت أنظار الصباح.. وهكذا هي الجماهير تتوقع من كل حدث كبير تحقيق المستحيل وتجاوز المحال، وحين نقول تجاوز المحال ندرك تمام الإدراك المبررات الموضوعية المتوافرة في المناخ العام والخاص لتجاوزه، فالعاجز وحده من يضع القيود ويشعل النار في دائرة وجوده ويتركها كي تفرض حصارها عليه.
قال البردوني إن ثمرة الاحداث العظيمة التفكير العظيم فإن أسكرت المجتمع فرحة، فبعد السكرة تأتي الفكرة، وستحل الفكرة محل السكرة ويحل التساؤل محل الأفراح، وكل مواطن ومسؤول يعرف أن لكل حدث حديثاً، ولكل جديد خلق الأمل في ما هو أجد وأنضر، وأعظم الأنظمة هو الذي تتعلق عليه الآمال، لأنها عهدت منه التحقيق، إذ لا يكون مناط أمل إلا من حقق آمالاً.
ومن هنا ندرك أن القيادة ليست اعتباطاً ومن لا يدرك فنونها تتركه الأحداث نقيعاً في صحراء التاريخ بلا معنى أو قيمة أو أثر، والذين يتفاعلون مع الزمن ويتجددون مع الحدث يظل بريقهم يشع في المستقبل، فالتجربة الصغيرة في التأسيس القيمي للانتقال سوف تترك فهماً كبيراً ووعياً منداحاً، فالجماهير أصبحت لا تنخدع بالإعلان وإنما بتطبيقه.
والحديث عن التطور يستنبت مفاهيم جديدة للشعب الجديد المتطور الذي سوف يتساءل كسائر الشعوب: ماذا تحقق؟ ماذا استجد؟ ماذا تغير؟ ماذا حلّ محل الذي كان قائماً؟ ذلك أن مطالب الشعوب لا تقف عند حد.
قدر الزعيم علي عبدالله صالح – تغشاه رحمات الله وبركاته – أن يكون استثنائياً في تاريخ اليمن المعاصر.. وثمة رأي تداولته الصحف العالمية يقول إنه كان نادر الوجود في الشرق الأوسط من حيث الحنكة والتفاعل مع الحدث وصناعة التحولات.. لقد اقتنص اللحظة الانفعالية عند الكثير ليصنع من خلالها لحظة ثورية حقيقية سندرك قوتها وخطورتها بعد أن تحل الفكرة محل السكرة في المستقبل القريب.. والمرء حيث يضع نفسه.
رحم الله الزعيم والقائد والرئيس علي عبد الله صالح فقد ملأ الحياة الوطنية والسياسية حضورا وتاريخا وها نحن نشهد حضوره المكثف في حياتنا ونشهد غروب خصومه وموتهم وهم على قيد الحياة .