نبوءة الدم: سؤال العدالة حين تُرهَن للهِاشمية

شايع الحميري
لا تبدأ الأسطورة من لحظة الخلق، بل من لحظة الاصطفاء. من اللحظة التي يُقال فيها للعالم: إن النور قد حُصِر، وإن الرحمة قد وُرِّثت، وإن على الإنسان، كلّ الإنسان، أن يركع لنسبٍ، لا لفكرة. وأن يؤمن بنصّ لا يُقرأ، إلا إذا أُملِي من شفاه عائلة واحدة. هنا لا تعود العقيدة مشروع خلاص، بل امتيازًا طبقيًا من نوع خاص، حيث تكون الجينات شرط الهداية، والدمّ تصريحًا بالعبور إلى الجنة.
ما حاجة الإنسان إلى دينٍ يبدأ بقول: “يا أيها الناس”، ثم ينتهي بقول: “يا بني عمّي، هذا لكم وحدكم”؟ ما جدوى رسالةٍ تدّعي أنها كونية، ثم تُشيّد صروحها على سلالة مغلقة كالأضرحة؟ كيف تُبنى العدالة على النسب، بينما النسب ليس فعلاً، بل مجرّد حدث بيولوجي؟ أليس النسب، في جوهره، أبسط مما يُمنح له من قداسة؟ أن يولد أحدهم في رحم فلانة، من صلب فلان، ليس فضيلة، بل واقعة. أن يتحوّل ذلك إلى شرط في فهم الوحي، واحتكار الحقيقة، والشفاعة، والمقام، والقيادة، والمحبّة الإلهية، فهذا ليس دينًا… بل مؤسسة مغلّفة بخيوط الدم.
في سردية الإسلام الوراثي، ليست النبوّة فعل هداية، بل وثيقة عقارية تُسلّم من جدّ إلى حفيد. لا يُسأل الهاشمي عن علمه، بل عن نسبه. ولا يُوزَن رأيه بالبرهان، بل بعمق انتمائه الشجري. هنا تنقلب الموازين: يصبح العقل ترفًا، والسؤال وقاحة، والبحث عن الله خارج السلالة خيانة مقدّسة.
ولأجل هذا، نرى كيف يُغتَسل التاريخ من دماء السلالة، ويُعلَّق كل ذنب على “الآخر”. الحسين شهيد، لا مسؤول. عليّ مظلوم، لا صاحب قرار. زيدٌ مجتهد، لا متمرد. وكل ما سوى بني هاشم، متّهم حتى يثبت النسب. حتى عبدالله بن سبأ، ذاك الشبح اليمني، استُحضِر كأداة لغسل يد السلالة من أي شوائب، ليُقال: كل الفتنة جاءت من خارج النسب، من خارج الحمى، من خارج “الدم المقدّس”.
فأيّ دين هذا، الذي يجعل الخلاص مسألة عائلية؟ وأيّ شريعة تلك التي تُقيم وزناً لعظم في جمجمة هاشمية أكثر مما تقيمه لروحٍ مشتعلة في صدر إنسان فقير؟ إن الحسين لا يُبكى عليه لأنه قُتِل ظلمًا، بل لأنه حفيد النبي. وعلي لا يُعظَّم لعدله، بل لنسبه. والزهراء لا تُبجَّل لطهارتها، بل لأنها نافذة سلالة. حتى الشفاعة، تُباع باسمهم، وتُمنح بإذنهم، وكأن السماء قد فوّضت أمرها إلى ورثة يُصنَّفون على أساس لقب، لا على أساس اجتهاد.
في هذا الدين المصنوع على مقاس النسب، تتحوّل العقيدة إلى مرآة للنسب، لا مرآة لله. يتحوّل الله نفسه إلى راعٍ للعشيرة، إلى شاهدٍ على شرف النسب، لا إلى مصدر للعدل الكوني. وهكذا، باسم الدين، يُعاد إنتاج نظام أشبه ما يكون بنظام “الحق الإلهي للملوك”، حيث يُنسب السلطان إلى الإله، لا ليُحاسَب، بل ليُعبد.
من قال إن الله يتعامل مع الناس كما تتعامل العائلات الأرستقراطية مع العوام؟ من قال إن الغفران يُجزَّأ حسب الجينات؟ من روّج لفكرة أن الدم يمكن أن يشتري مفاتيح الجنة؟ إن كانت أبواب النجاة لا تُفتح إلا ببطاقة عائلية، فهل نحن أمام دين، أم أمام أرشيف أنساب؟ هل نحن ورثة نور، أم أسرى سرديةٍ جعلت من العائلة ضريحًا، ومن التاريخ قيدًا، ومن الوحي ختمًا سلطانيًا لا يُمسّ؟
الحقيقة أن الإسلام، كما قُدِّم لنا، ليس إلا سلالةً تمشي، تتكلم، تقتل، وتُغفَر لها، ثم تُقدّس. والناس؟ مجرّد جمهور في مسرح الورثة. يصلّون، يصومون، يتعبّدون… لكن لا يدخلون إلى مركز المسرح. ذلك لأن مركز المسرح محجوز، باسم الدم، باسم الاصطفاء، باسم الرواية الكبرى التي قرّرت أن “الله لا يختار إلا من عائلة واحدة”، حتى بعد أن قال في كتابه: “وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين”.
لكن، هل لله سلالة؟
هل النور يحتاج إلى نسب؟
هل الحق يُورّث، كما تُورّث المجوهرات؟
إن كان الجواب: نعم، فليس هذا دينًا… بل خرافة.
وإن كان الجواب: لا، فقد آن لنا أن نُحرّر النبي من السلالة، والدين من العائلة، والرسالة من القبيلة، والإنسان من هذا القيد الوراثي الذي حوّل الإيمان إلى “امتياز دموي” لا يناله إلا من ولد في رحمٍ معين.
22 يونيو 2025م